فعلةُ الرئيس ماكرون!

2024.06.29 | 05:51 دمشق

آخر تحديث: 29.06.2024 | 05:51 دمشق

ماكرون
+A
حجم الخط
-A

وضع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بلاده في حالة استنفار سياسي عندما أعلن حل الجمعية الوطنية (البرلمان) والدعوة إلى انتخابات مبكرة عقب النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، التي جرت في التاسع من حزيران 2024، والتي أفضت إلى تقدم كبير لليمين واليمين المتطرف في القارة الأوروبية. ورغم أن هذا الفوز كان متوقعًا إلى حد ما، فإن تحوله إلى واقع سياسي ماثل للعيان تسبب لفرنسا بزلزال سياسي كبير، إذ إن الكثير من معارضي اليمين المتطرف كانوا يعتقدون أن فرنسا، بإرثها العلماني المتسامح، هي بلاد عصية على التطرف.

بعد أن أدرك مدى انحدار شعبيته، يقامر الرئيس الفرنسي، وهو القادم من خلفية مصرفية ويعرف تمامًا دهاليز البورصة، بأن يسند ظهره للحائط ويضع كل رصيده على طاولة البوكر: إما أن يسترد شرعيته، أو أن يدع الشعب الفرنسي في مواجهة خياره لليمين المتطرف. ولكنه يقامر بحسابات دقيقة كذلك، فخطة الرئيس ماكرون تقوم على ثلاثة محاور: أولها هو إثارة الهلع في صفوف النخبة الفرنسية من احتمال وصول اليمين المتطرف، المتمثل بالتجمع الوطني برئاسة الشاب جوردان بارديلّا، إلى سدة الحكم. وثاني أعمدة خطة ماكرون هو خلق الفوضى في صفوف خصومه السياسيين، فالمدة بين إعلان حل الجمعية الوطنية وإجراء الانتخابات محددة بعشرين إلى أربعين يومًا وفقًا للمادة 12 من الدستور الفرنسي، وهي مدة قصيرة جدًا للأفرقاء السياسيين كي يقيموا تحالفاتهم ويختاروا مرشحيهم. أما ثالث المحاور التي اعتمد عليها ماكرون فهو سيناريو وصول اليمين المتطرف للحكم وبقائه فيه ثلاث سنوات حتى موعد الانتخابات الرئاسية الجديدة في 2027، وعندها سيدرك الجميع أن السياسة ليست مجرد خطابات شعبوية، وإنما وقائع ومصالح سياسية-اقتصادية، وهو يراهن على فشل اليمين المتطرف على هذا الصعيد مما سيكسب حزبه أصواتًا مضاعفة في انتخابات 2027.

بعد أن أدرك مدى انحدار شعبيته، يقامر الرئيس الفرنسي، وهو القادم من خلفية مصرفية ويعرف تمامًا دهاليز البورصة، بأن يسند ظهره للحائط ويضع كل رصيده على طاولة البوكر

وبالفعل، فحتى الآن تبدو خطته ناجحة، إذ سرعان ما نسي اليسار الفرنسي كل خلافاته السابقة وأعلن عن تحالف مثير بين أحزابه، سينفجر ولا شك بعد الانتخابات البرلمانية، باسم "الجبهة الشعبية"، وهو اسم له مدلول نوستالجي عند الفرنسيين يعود بهم إلى أيام النضال ضد الفاشية إبان احتلال باريس من قبل الألمان. وهذا التحالف الجديد موجه بالطبع ضد التجمع الوطني المتطرف قبل أن يكون موجهًا ضد الائتلاف الحاكم.

من جهة ثانية، دب الخلاف سريعًا في أوساط اليمين المتطرف، فثلاثة من أصل خمسة نواب أوروبيين محسوبين على "حزب الاسترداد" الذي يتزعمه إريك زمور عادوا إلى التجمع الوطني (من بينهم ماريون ماريشال لوبان ابنة أخت مارين لوبان)، كما قام المكتب السياسي للحزب الجمهوري بطرد رئيسه إريك سيوتي إثر دعوته في مقابلة تلفزيونية إلى التحالف مع اليمين المتطرف.

على صعيد استطلاعات الرأي هناك مفاجأة كبيرة، فعلى الرغم من اكتساح اليمين المتطرف للبرلمان الأوروبي، فإن الاستطلاعات تُظهر تراجع شعبيته عما كانت عليه نهاية العام الماضي. ففي استطلاع أجرته شركة هاريس في ديسمبر/ كانون الأول 2023، فيما لو أجريت الانتخابات وقتها، كان يمكن للتجمع الوطني المتطرف الحصول على 243 إلى 305 مقاعد من مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان) البالغ عددها 577 مقعدًا (الأغلبية المطلقة هي 289 مقعدًا). فيما أظهر استطلاع حديث أجرته نفس المؤسسة أن عدد المقاعد التي سينالها التجمع الوطني ستتراوح بين 235 إلى 280 مقعدًا، وتاليًا سيحتاج لتحالفات كثيرة لتمرير سياساته. نفس الاستطلاع أعطى الجبهة الشعبية لليسار 29%، ولتجمع معًا الموالي لماكرون 22%. الاستطلاع أظهر أيضًا أن 50% من الفرنسيين قلقون من وصول اليمين، و30% راضون، و20% غير مهتمين لأنهم يعتقدون أن وصول اليمين لن يغير كثيرًا في أوضاعهم، لا سلبًا ولا إيجابًا. (حاليًا، تتوزع المقاعد البرلمانية الفرنسية على الشكل التالي: 169 لحزب النهضة الماكروني، و88 مقعدًا للتجمع الوطني، و180 مقعدًا للجبهة الشعبية إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد المقاعد التي فاز بها كل مكون من مكوناتها).

يراهن ماكرون أيضًا، وكذلك خصومه اليساريون، على أن تقنية الانتخابات البرلمانية الفرنسية تختلف كثيرًا عن الآلية التي يعمل بها في الانتخابات التشريعية الأوروبية، ففي حين أن انتخابات البرلمان الأوروبي تكون واضحة، وتجري على مرحلة واحدة، وبنظام اللائحة الواحدة، فإن انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية يشوبها الغموض والتوقع، وتجري على مرحلتين، وبنظام انتخاب نسبي.

ماذا يعني ذلك؟

يفوز تلقائيًا في الجولة الأولى من الانتخابات المرشح الذي يحصل على 50% من نسبة الأصوات، وبنسبة مشاركة لا تقل عن ربع الناخبين المحليين، بينما المرشحون الذين لا ينالون نسبة 12.5% من الأصوات يستبعدون من الجولة الأولى، ولا يحق لهم بالتالي الترشح للجولة الثانية. مما يفتح المجال للبازارات السياسية والتحالفات التي ستخوض تصويتًا تكتيكيًا يهدف إلى إقصاء اليمين المتطرف.

ولكن، لماذا تربّع اليمين على عرش السباق البرلماني؟

هكذا رد الفرنسيون على فشل سياسات رئيسهم وحكومته النيو-ليبرالية، ففرنسا تشهد أزمة اقتصادية، ومعدل تضخم يبلغ 2.8% (مقابل 2.6% في منطقة اليورو)، ومعدل بطالة بلغ 7.5% (مقابل 6.4% في منطقة اليورو)، مما أدى إلى زيادة عدد المتضررين من الإجراءات الحكومية بسبب الفوارق الاجتماعية التي ازدادت بين طبقات الفرنسيين. هؤلاء الغاضبون سيصبحون صيدًا سهلاً لخطاب يميني شعبوي يبني سياسته على أيديولوجيا هُوياتية تُحمل الغرباء واللاجئين المهاجرين المسؤولية باعتبارهم يشكلون عبئًا على الدولة بحسب مارين لوبان. فتراجع دور الدولة في إدارة القطاع العام تسبب في ترد ملحوظ في جودة الخدمات (الكهرباء على سبيل المثال لا الحصر)، وبدلاً من توجيه اللوم للسياسات الحكومية المتعاقبة، فإن شمّاعة المهاجرين تبدو جاهزة أكثر، وذات نتائج أسرع في التحشيد والتحريض.

هل من أثرٍ على المهاجرين فيما لو فاز اليمين المتطرف؟

بالطبع، ستزداد الحملات الإعلامية التي يقودها نجوم إعلام يعملون لصالح اليمين المتطرف. سيعمل اليمين على إيقاف حق الأرض (الذي ينص على أن المولود على الأراضي الفرنسية لأبوين أجنبيين يحصل على الجنسية الفرنسية تلقائيًا)، كما سيتم تشديد إجراءات لم شمل أسر المهاجرين، وسيكون التوجه الأخطر ضد المهاجرين غير الشرعيين. ولكن، وبسبب عدم توقع حصول اليمين على الأغلبية المطلقة، فإن هذه المشاريع ستستهلك وقتًا طويلًا في النقاش، وقد لا ترى النور.

هناك ميزة في فوز اليمين المتطرف! قد نشهد فشلًا حكوميًا يقوده اليمين، وعندها سيرى الكثير أن المهاجرين مجرد ورقة انتهاز سياسي لا أكثر في يد النخبة السياسية، وأن المشاكل الحقيقية لفرنسا في مكان آخر، مكان ننتظر الحل فيه عند اقتراب الانتخابات الرئاسية في العام 2027.

 

 

كلمات مفتاحية