انتهت الهدنة الأولمبية التي فرضها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على الأحزاب السياسية الفرنسية الفائزة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، لكنّ الأزمة التي تسبّب بها الرّئيس لم تنتهِ بعد، وحتّى لحظة كتابة هذه السّطور، فإنّ الحلّ لا يبدو قريباً.
لم تشهد الجمهورية الخامسة، والتي ولدت في العام 1958، أزمةً كهذه من قبل، أن يبقى مقعد رئيس الوزراء شاغراً لأشهر عديدة، وأن تسيّر حكومة تسيير أعمال البلاد من دون تحديد مهلة تاريخية لها، هذه سابقة تاريخية تُسجّل للرّئيس الشّاب الذي وصل إلى سدّة الحكم كتمثيل لموجةٍ سياسية تصورّت أنّها تستطيع الاستغناء عن العقائد الأيديولوجية عبر اعتمادها على "مجتمع مدنيّ" فضفاض.
في الحقيقة، يبدو أنّ العلّة تكمن في نظام الجمهورية الخامسة نفسه، فهذا النظام الذي صمّم استناداً إلى دستور 1958 كان ردّاً على حالة عدم الاستقرار السّياسي الذي عانت منه فرنسا خلال جمهوريتها الرّابعة (1946-1958)، ففي هذه السنوات مرّت على مقرّ الحكومة الفرنسية، أو ما يُعرف بقصر الماتينيون "Hôtel de Matignon" عشرون حكومة، ترافق ذلك مع أزمة استعمار الجزائر وقتها.
هذه الآلية منحت الاستقرار لفرنسا طوال العقود الماضية لأنّها صُممت بناءً على انتخابات تُعطي أغلبية ساحقة لكتلة سياسية ما، لكنّها أغلقت الباب أمام الحركات السياسية الصغيرة، أو الناشئة، أو التي تحتاج إلى تحالفات فيما بينها..
تمّ وقتها الطلب من الرمز الوطني شارل ديغول العودة إلى السلطة، فاشترط مقابل ذلك تقوية موقع الرّئاسة عبر إعطاء السلطة التنفيذية سلطات واسعة على حساب السلطة التشريعية "البرلمان"، وكانت غايته من ذلك التغلّب على الانقسامات الحزبية التي عرقلت الحياة السياسية في البلاد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وبالفعل، تمّ الانتقال إلى نظام شبه رئاسي يكون للرئيس فيه صلاحيات واسعة تخوّله تعيين رئيس الحكومة من دون النظر للأغلبية الحزبية المنتخبة، كما تخوّله حلّ البرلمان، وحتّى إقرار قوانين دون موافقة البرلمان عليها.
هذه الآلية منحت الاستقرار لفرنسا طوال العقود الماضية لأنّها صُممت بناءً على انتخابات تُعطي أغلبية ساحقة لكتلة سياسية ما، لكنّها أغلقت الباب أمام الحركات السياسية الصغيرة، أو الناشئة، أو التي تحتاج إلى تحالفات فيما بينها للحصول على مقاعد برلمانية وازنة.
وهذا النظام السياسي المغلق هو ما أوصل فرنسا لأزمتها الحالية، خصوصاً مع ضعف الحزبين التاريخيين الأكبر، الجمهوري والاشتراكي، وانشقاقاتهما المتكرّرة إلى أحزاب أصغر حجماً الأمر الذي أعاد فرنسا إلى مربعها الأوّل قبل إقرار دستور 1958.
وفقاً لمقياس إيدلمان للثقة "Edelman Trust Barometer" لعام 2023، فإنّ 40% فقط من الفرنسيين يعتقدون أنّهم سيكونون في وضعٍ أفضل خلال السنوات الخمس القادمة، وأعرب 34% فقط من المستطلعين عن ثقتهم بحكومتهم، وهذا أدنى مستوى منذ الحرب العالمية بحسب مركز الدراسات السياسية والسياسات الاقتصادية.
هذه الأرقام تعكس استياءً واسعاً يشير إلى انخفاض الثقة في المؤسّسات السّياسية، وينبع هذا الانخفاض في الثقة من عدة عوامل، أهمها عدم الاستقرار الاقتصادي، والاستقطاب السياسي، والفشل الملحوظ في إدارة البلاد.
وهناك مؤسسات مثل القضاء ووسائل الإعلام تثير شكوكاً كثيرة، مما يزيد من تعميق أزمة الديمقراطية. ومن يعرف أسلوب معيشة الفرنسيين يعرف أنّهم يعتمدون بشكل كبير على دولتهم، هذه الدّولة التي تسير نحو اختناق مؤسّسي خطير.
ما الحلّ؟
على إثر أزمة "الستر الصفراء"، دعا الرّئيس ايمانويل ماكرون إلى حوار وطني واسع امتد من كانون الثاني/ يناير إلى نيسان /أبريل 2019.
كان احتجاج "الستر الصفراء" الرئيسي يتمحور حول زيادة الضرائب على الوقود، وارتفاع تكاليف المعيشة، لكنّه امتدّ ليعبّر عن هموم الطبقات المهمّشة في فرنسا.
الحوار الوطني الذي قاده ماكرون تركّز على أربع محاور أساسية لم يكن بينها معالجة إحساس مواطنيه بالتهميش وضعف ثقتهم بمؤسّساتهم الأمر الذي ضاعف من الفجوة بين النّاس وبين النخب التي من المفترض أن تمثلهم، وكانت نتائج المؤتمر مخيبة للآمال، ولاقت اعتراضات كبيرة من المحللين السياسيين أهمها أنّ الحوار ومواضيعه كانت شكلية وسطحية.
طريقة الدعوة إلى الحوار، وإدارته، تعكس نمط تفكير نخب فرنسا السياسية، ونظرتها إلى الديمقراطية على أنها مجرّد عملية اقتراع في صناديق توصل متنفذين إلى الحكم.
لا يخفى على المتابعين بأنّ الأزمة الديمقراطية في فرنسا هي جزء من أزمة أعم تشمل العالم الغربي كلّه تقريباً (نستثني عالمنا العربي من أزمة الديمقراطية لأنّ شرط وجود أزمة ديمقراطية هو وجود حياة ديمقراطية أصلاً!)، وبرأينا أنّ الحل ربّما يبدأ من تفعيل الديمقراطية التّشاركية..
طبعاً، لا يخفى على المتابعين بأنّ الأزمة الديمقراطية في فرنسا هي جزء من أزمة أعم تشمل العالم الغربي كلّه تقريباً (نستثني عالمنا العربي من أزمة الديمقراطية لأنّ شرط وجود أزمة ديمقراطية هو وجود حياة ديمقراطية أصلاً!)، وبرأينا أنّ الحل ربّما يبدأ من تفعيل الديمقراطية التّشاركية.
تنطلق "الديمقراطية التّشاركية" من أنّ الانتخابات الحرّة، على أهميتها، إلّا أنّها لا تكفي لتمام العملية الدّيمقراطية، فثقافة المؤسّسات السّياسية والخدمات المدنية يجب أن تتغير أيضاً، وذلك يتطلّب العمل على جعل مساهمة المواطنين أكبر في القضايا الكبرى والحسّاسة للحدّ من "استبداد" الدّيمقراطية التّمثيلية التي تعتمد على مبدأ رابح أو خاسر، أو ائتلاف مستحيل بينهما.
ترتكز "الديمقراطية التّشاركية" على التّوازن بين المراكز والأطراف، وعلى المشاركة الفعالية للمناطق، خصوصاً الأحياء والبلديات، في المسائل التي تخصّ هذه الأحياء والأطراف، وعدم ترك حياة الضواحي بيد ممثلين منتخبين فقط، لأنّ هؤلاء المنتخبين يخضعون في النهاية لاستراتيجية خطهم السّياسي، لا لمصالح من انتخبهم.
ربّما استطاعت "الديمقراطية التّشاركية" الحدّ من الخطاب الشّعبوي، اليميني واليساري، بخصوص مسألة حسّاسة كمسألة الهجرة مثلاً، وذلك عن طريق العمل على فسح المجال للمهاجرين للمساهمة، ترشحاً وانتخاباً، في المجالس البلدية على الأقل، الأمر الذي يقلّص المزاودة باسمهم، فيصبحون قادرين على التعبير السياسي عن مشاكلهم، وبالأخص مشكلة الاندماج الأزلية في فرنسا، وأيضاً التخلّص من ثنائية "العنصرية/المظلومية" التي يتعامل بها المهاجمون والمدافعون عنهم.
ختاماً، فرنسا بحاجة إلى تعزيز الشفافية والتشاركية السياسية، وذلك عبر تحسين لغة الحوار بين الخصوم السياسيين، والدّعوة إلى إصلاح النّظام الانتخابي ليصبح أكثر مرونة، سيّما في ظلّ غياب الكاريزمات التي كانت تملأ الفضاء السياسي الفرنسي.. هذا وإلّا كنّا على أعتاب أزمة كبيرة قد تُفضي إلى جمهورية سادسة.