حين تفاجئُنا فرنسا: فاز اليسار لكنّ اليمين لم يخسر!

2024.07.14 | 05:42 دمشق

مارين لوبان
+A
حجم الخط
-A

مرّة ثانية تفاجئنا فرنسا، فبعد ثلاثة أسابيع من زلزال سياسي سببته نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية التي جرت في التاسع من حزيران/ يونيو الماضي، والتي أسفرت عن اكتساح اليمين المتطرف ممثلاً بالتجمع الوطني الذي يترأسه جوردان بارديلا للمقاعد الفرنسية في البرلمان الأوروبي بنسبة 32%، وبنسب تصويت فاقت الـ 50% من الفرنسيين، ووسط توقعات ومخاوف من حصول هذا اليمين على الأغلبية المطلقة في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، والتي اختتمت يوم الأحد الماضي بعد مرحلتي تصويت بعد نسبة تصويت قياسية لم تشهدها البلاد منذ انتخابات عام 1980وصلت إلى 67%، عاد الفرنسيون ليقلبوا الطاولة مرّة ثانية بإعطاء أصواتهم لليسار الذي حصل ممثلوه في الجبهة الشّعبية الجديدة على المركز الأول بـ  182مقعداً من أصل 577 مقعداً هي عدد مقاعد الكلّي في الجمعية الوطنية الفرنسية. وجاء تحالف معاً الذي يقوده الرّئيس إيمانويل ماكرون بـ 168 مقعداً، فيما لم ينلْ التّجمع الوطني اليميني المتطرّف إلّا 143 مقعداً، علماً بأنّ بعض استطلاعات الرأي كانت قد توقعت له الحصول على أغلبية مطلقة (289 مقعداً).

المفاجأة الفرنسية الجديدة تمثّلت في تغيّر المزاج الشّعبي العام بسرعة، وخلال ثلاثة أسابيع فقط، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. ولكن ذلك لم يعنِ فوز اليسار لأنّ خصميه الرئيسيين، اليمين المتطرف ويمين الوسط، لم يخسروا.

ما المعضلة؟

احتفل اليسار بفوزه، واعتبر الماكرونيون أنّ عدم وصول اليمين المتطرّف إلى الحكم هو إنجاز بحدّ ذاته، ولكنّ اليمين المتطرّف احتفل أيضاً برغم خيبة أمل الشاب المغرور بارديلّا الذي بقي يتحدّث لمدّة ثلاثة أسابيع متتالية تلت الانتخابات الأوروبية وكأنّه رئيس وزراء فرنسا القادم، فبعد مقعدين فقط في برلمان 2012، وبالرغم منْ أنّ القضاء الفرنسي صنّف التجمع الوطني على أنّه "حزبٌ متطرّف"، ها هو يحصل اليوم على 143 مقعداً، إذ أشارت مراكز الإحصاء إلى أنّ عشرة ملايين فرنسي صوتوا للتجمّع الوطني، معظمهم من الأرياف، ومن طبقات اجتماعية متضرّرة من سياسات ماكرون وخطابه الاستعلائي، كالعمّال والمزارعين وصغار الموظفين. في حين توزع صوت نحو اثني عشر مليون فرنسي مناصفةً بين الجبهة الشعبية وتحالف معاً.

إذاً فلا منتصر، والجميع اعتبر نفسه فائزاً رغم أنّ أحداً لم يستطع أنْ يحسم السباق البرلماني ما يعني أنّنا أمام ثلاث كتل رئيسة معضلتها أنّ كلّاً منها لا يستطيع الحكم بمفرده، كما أنّها لا تستطيع، بسبب اختلاف الرؤى الجذري التحالف فيما بينها، التحالف لتشكيل الحكومة العتيدة. وهذه الحال قد تضع فرنسا أما شللٍ سياسي مديد، خصوصاً وأنّ الرئيس الفرنسي رفض استقالة رئيس الحكومة غابرييل أتال طالباً منه الاستمرار "حفاظاً على استقرار البلاد"، خصوصاً وأنّنا على أبواب الدورة الأولمبية التي تستضيفها باريس هذا الصّيف.

المفاجأة الفرنسية الجديدة تمثّلت في تغيّر المزاج الشّعبي العام بسرعة، وخلال ثلاثة أسابيع فقط، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار

لم تعشْ الجمهورية الخامسة وضعاً معقداً كهذا منذ تأسيسها عام 1958، ذلك أنّ الثقافة السياسية الفرنسية لا تعترف إلا بمبدأ الأغلبية، قد يحدث أن يكون الرئيس في واد والبرلمان في وادي آخر ممّا يفرض حكومات تعايش، كما حصل مثلاً في الثمانينات بين الاشتراكي فرانسوا ميتران والديغولي جاك شيراك الذي تزعم وقتها أغلبية برلمانية.

السيناريوهات المتوقعة بشأن تسمية رئيس الوزراء لا تدعو إلى التفاؤل، فمظاهر تفكك الجبهة الشعبية الجديدة بدأت بالظهور منذ إعلان النتائج، فقد احتفل قادة الأحزاب الأربعة المكوّنة للجبهة كلّ بمفرده (فرنسا الأبية 73 مقعداً، والحزب الاشتراكي 61 مقعداً، وحزب الخضر 39 مقعداً، والحزب الشيوعي 9 مقاعد)، ولم نرهم مجتمعين منذ مساء الأحد، وصحيح أنّ ميلانشون هو من أحيا اليسار الفرنسي عملياً، إذ حصل على 22% من نسبة الأصوات في الانتخابات الرئاسية عام 2022، كما أنّه هو من بادر بالدعوة لتشكيل تحالف اليسار في وجه اليمين المتطرّف، إلّا أنّ شخصيته الحادّة لا تحظى بالقبول لدى الفرنسيين، وهناك اعتراض كبير عليه حتى من حلفائه كزعيمة الخضر مارين توندولييه، في حين يرى الاشتراكيون أنّ زعيمهم أوليفييه فور هو الأجدر بالمنصب. ويبدو أنّ فوز اليسار في هذه الجولة قد فتح باب الطموح للعديد من شخصياته للترشح إلى رئاسيات 2027.

حزب التجمع اليميني المتطرف بدوره، وباعتباره الحائز على أكبر عدد من المقاعد وصاحب الكتلة الأكثر صلابةً في الجمعية الوطنية، يرفض التحالف مع أيّ كان لتشكيل حكومة كان مناصروه يعتقدون قبل أيامٍ قليلة فقط أنّه سيكون اللاعب الأساسي فيها. في حين يراهن تحالف معاً بقيادة ماكرون على تفجّر اليسار ليصطاد الاشتراكيين والخضر، وابتعاد الجمهوريين عن ماري لوبان وانضمامهم إليه كي يتمكن من تشكيل أغلبية تُعيد له الحكم ضارباً بعرض الحائط نتائج الانتخابات الأخيرة.

الجميع في فرنسا ينتظر حلول يوم 18 الشهر الحالي موعد اجتماع الجمعية الوطنية لبدء دورها التشريعي الجديد، والبند الوحيد المطروح على الطاولة هو انتخاب رئيس الجمعية، وهو اختبار حقيقي لمآلات الصراع بين الكتل السياسية الأساسية، ومن المتوقع أن يكون الرئيس السابق العائد عن اعتزاله فرانسوا هولاند هو المرشح الأبرز له، لكن أيضاً لا يتوقع له أن ينجح من المرّة الأولى، فحسب الدستور الفرنسي، يحتاج المرشح لرئاسة الجمعية الوطنية إلى الأغلبية المطلقة ليفوز بالمنصب، فإذا لم يتمكن من ذلك من الجولة الأولى، يُحدّد موعد لجولة ثانية، وإلا فهناك جولة ثالثة وأخيرة يُكتفى فيها بأغلبية نسبية، أي من حاز على أكبر عدد من الأصوات.

هناك سيناريو مسكوت عنه، ففي حال فشل التوافق على رئيس للحكومة، أو أنّه لم ينل الثقة بعد تعيينه، فستستمر الحكومة الحالية في تسيير الأعمال لمدة عام كامل قبل الدعوة لانتخابات مبكرة ثانية.

فرنسا نجحت في إبعاد اليمين المتطرف عن الحكم، لكنها تركت هذا الحكم في فراغٍ كبير، فراغ يطرح تساؤلاً كبيراً عن مصير الديمقراطية الفرنسية المنهكة.