لن يكون من اليسير الكتابة عن ضخامة ما حدث في روسيا مؤخراً. يمكن تقديم قراءات كثيرة، وتحليلات وفيرة بعضها قد يقدّم إحاطة شاملة، وبعضها الآخر قد يبقى قاصراً. فيما انتظار المزيد من المعلومات أو من الأحداث قد يوضح الكثير من الخفايا. لكن مما لا شك فيه أن ما جرى ينطوي على مخاطر كبرى لا تطال روسيا فقط إنما الأمن العالمي أو التركيبة الدولية القائمة حالياً على الرغم من الصراع المفتوح بين الشرق والغرب. في لحظة معينة وجد الغرب نفسه معنياً بالحفاظ على النظام الروسي. وقد وجد الرئيس فلاديمير بوتين نفسه أيضاً بحاجة إلى الغربيين للحفاظ على وضعيته، وفق قاعدة تقاطع مصالح لحماية منظومة الأمن والسلم الدوليين.
على الرغم من اعتبار بوتين أنه تجاوز تلك الأزمة، إلا أنه من المستحيل التسليم بذلك. ما جرى هو انفجار لا بد لتشظياته أن تستمر. هو صراع سيستمر ويتوسع ويطول الكثير من مراكز القرار الروسي. من أهم أسبابه ونتائجه هو اللجوء إلى كيانات موازية للكيانات الرسمية أو للمؤسسات. في الصورة العامة فإن أي نظام سواء كان في العالم الثالث أم في دولة مثل روسيا، عندما يكون هناك خليط بين نوع من الديكتاتورية، والأوليغارشية، وبمثل هذه العقلية للحكم، لا بد لها أن تنتج ظواهر مثل ظاهرة فاغنر، أو ظاهرة صراعات الأجنحة داخل السلطة. يمثل جناح فاغنر الجناح الشوفيني العسكريتاري في روسيا اليوم، وهذا الجناح رأى هزيمة روسيا في أوكرانيا أو على الأقل ما تعرضت له من إذلال وعدم تحقيق الأهداف، خصوصاً أنها كانت تريد السيطرة على أوكرانيا بثلاثة أيام، وعدم تحقق ذلك أدى إلى إذلال روسيا، ما دفع بالكثير من المتشددين إلى اعتبار أن ما تعرضوا له لا يمكن السكوت عنه.
مشهد انتقال القافلة بمساحة كبيرة وسط صمت بوتين وبدون أي مقاومة أظهر بعضاً من التعاطف الشعبي مع فاغنر، لا سيما وسط بروز رأي عام داخل روسيا يعتبر أنه لم يكن من داع للدخول في هذه الحرب، في مقابل، تعاطف جموع كثيرة من فاغنر والتي كان رئيسها يظهر كبطل قومي قبل أسبوع من الحادثة على الرغم من خسارته لنصف قواته. عملياً، كان بوتين قد عمل على تنمية وحش لكنه انقلب عليه أو لم يعد قادراً على السيطرة عليه.
وهذا يقود إلى خلاصة واضحة وهي أن روسيا قد فشلت في أن تكون دولة ناجحة ومتقدمة، كما أنها فشلت في قدرتها على مقارعة الغرب
ما جرى سيؤسس لفوضى مقبلة في روسيا، هو يشبه ما قام به صدام حسين بتأسيس الحرس الجمهوري، وبشار الأسد الذي أنشأ الفرقة الرابعة، لا يمكن لأزمة فاغنر أن تنتهي بهذه الطريقة، سيكون لها تداعيات وآثار وانفجارات كثيرة داخل روسيا وداخل صفوف فاغنر. قد ينتج عنها لاحقاً اغتيالات وعمليات تصفية، من الجانبين. وهذا يقود إلى خلاصة واضحة وهي أن روسيا قد فشلت في أن تكون دولة ناجحة ومتقدمة، كما أنها فشلت في قدرتها على مقارعة الغرب، وهذا ما يجدد الجرح الروسي القائم منذ أيام القياصرة بسبب التخلف عن أوروبا.
لا يمكن القبول بنقل مصير مشابه للشرق الأوسط إلى قلب أوروبا. خصوصاً أن أكبر دولة في العالم من حيث المساحة ستكون قائمة على صراعات متعددة ومتمددة لا تقف عند حدودها، إنما ستطول بحاراً ومحيطات تهدد الأمن العالمي
لا بد لذلك أن يؤسس لكثير من المفاجآت، ما سيدفع روسيا للذهاب إلى حملة تطهير، فيما سيؤسس ذلك للتمدد إلى قلب بيلاروسيا، فيما قد يلجآن معاً إلى تهديد أوروبا بالفوضى والعنف وربما بحرب طويلة. فيما لم يعد السؤال المقلق ما هو مصير أوكرانيا، بل ما هو مصير روسيا، وبيلاروسيا وكل الدول القريبة من الفلك الروسي. وهذا ينتج خوفاً أساسياً لدى الأوروبيين والأميركيين والصين أيضاً. إذ لا يمكن القبول بنقل مصير مشابه للشرق الأوسط إلى قلب أوروبا. خصوصاً أن أكبر دولة في العالم من حيث المساحة ستكون قائمة على صراعات متعددة ومتمددة لا تقف عند حدودها، إنما ستطول بحاراً ومحيطات تهدد الأمن العالمي، نظراً لوجود روسيا في دول كثيرة.
هذا ربما ما دفع الأميركيين إلى القلق الكبير، وما جعل بوتين بحاجة إلى الغرب للحفاظ على نظامه، لأن أي إطاحة به ستؤدي فعلياً إلى تشظيات كبرى في داخل أوروبا وعلى صعيد الأمن العالمي. ولكن هذا كله يقود إلى خلاصة واحدة أنه لا يمكن التوقع بالمدى الزمني الذي ستبقى عليه الأزمة في روسيا، فيما سيكون أمام استحقاق أساسي هو إذا ما كان سيستمر بالحرب أم سيتراجع. هو يعلم أن الحرب خاسرة، ولكن التراجع عنها قد تنتج عنه ثورة داخلية، أو بالحد الأدنى سيؤدي إلى اصطناع جغرافيات متعددة داخل روسيا أو مطالبة دول كثيرة في الاتحاد الروسي للانفصال، ما يعني أن وحدة روسيا أصبحت مهددة. لكن التهديد لا يقتصر عليها بل على كل التركيبة العالمية.