أخطر وأبعد ما يمكن أن تؤسس له الحرب على قطاع غزة وتداعياتها وسط صمت العالم الفعلي، هو إعادة إنتاج منطقة المشرق العربي على أساس إفرازي يجتزئها من محيطها ويجعلها منطقة مشابهة لواقع الصومال أو السودان أو مجاهل أفريقيا.
وحتماً لما بعد الحرب على غزة وخلفياتها هناك مشاريع كثيرة لا بد من التوقف عندها وربما لتلبيتها يستدعي ذلك عزل هذه المنطقة وإبقاءَها على غرقها في بحور الدم والمجاعات والانهيار والتشرذم والصراعات القومية أو المذهبية أو الطائفية.
تواصل آلة القتل الإسرائيلية جرائمها في غزة بلا حسيب أو رقيب. يقابلها بحث جهات إقليمية عن مصالحها وأهدافها الإستراتيجية، وسط غياب أي مشروع سياسي عربي واسع ومتكامل يوفر حماية للمرتكزات أو الحواضر العربية.
في موازاة استمرار مجازر التدمير والقتل والتهجير من قبل الإسرائيليين في غزة، تشرع الولايات المتحدة الأميركية في بناء الرصيف العائم والذي تدّعي أنه لإدخال المساعدات، علماً أن أهدافه الإستراتيجية أبعد من ذلك بكثير وهدفها التمركز عند نقطة أساسية على شرق البحر الأبيض المتوسط، وما يتصل بمواجهة الوجود الروسي على الساحل السوري، وبمعابر وممرات التجارة، وبما يتصل بغاز غزة مستقبلاً. أقصى المواقف التي يعلنها الأميركيون حول الحرب على غزة هي ضرورة إيصال المساعدات الإنسانية، وكأن المشكلة هي مشكلة فقر أو جوع وليست مشكلة حرب ممنهجة لتغيير جغرافي وديمغرافي وسياسي كبير على مستوى المنطقة، في مقابل إبراز صور ومشاهد لشاحنات المساعدات أو الطائرات التي تلقي صناديق المساعدات من السماء. مشهد يشير إلى التعاطي مع ملفات المنطقة من منطلق "إغاثة إنسانية".
تشهد سوريا صراعات، أميركية، غربية، روسية، إيرانية، تركية، إسرائيلية تتفرع منها صراعات داخلية متعددة، في ظل انعدام أي رؤية للحلّ.
يمكن لهذا المشهد أن يتعمم أيضاً لاحقاً على الضفة الغربية، وسوريا، ولبنان، وربما يصل إلى السودان وغيره من الدول المهددة بانهياراتها. تترك هذه الساحات تغرق بأزماتها السياسية والطائفية والتي تحولت إلى انعكاس لصراعات إقليمية ودولية، كسوريا التي تشكل مثالاً أبرز، أولاً في ظل ظروف اقتصادية خانقة جداً، وعدم قدرة أي طرف على إحداث تغيير في الوقائع، في حين تتصارع مشاريع كثيرة فوق الأرض السورية، وسط غياب تام لأي موقف من قبل النظام السوري الذي يفترض أنه صاحب القرار الرسمي والنهائي، تشهد سوريا صراعات، أميركية، غربية، روسية، إيرانية، تركية، إسرائيلية تتفرع منها صراعات داخلية متعددة، في ظل انعدام أي رؤية للحلّ مقابل عقوبات مفروضة بقسوة، ومساع مضادة لمنع تمرير فرض قانون التطبيع مع النظام، ما سيبقي الوضع على حاله المترهل لسنوات، وعندما تحلّ كارثة، يبرز مصطلح المساعدات الإنسانية.
لبنان أيضاً يقبع منذ سنوات في قالب مشابه، منذ الانهيار السياسي والاقتصادي، إلى تفشي وباء كورونا، وتفجير مرفأ بيروت، لم يعد هناك أي تعاط سياسي مع لبنان، إنما مساعدات إنسانية بين فترة وأخرى يتم تسليمها وآخرها مبلغ المليار يورو لدعم المجتمع المضيف للاجئين وسط انعدام أي قدرة على إيجاد حل شامل لهذه الأزمة. وكأن هناك من يسعى إلى تعميم هذه الصورة عن مجتمعات المشرق العربي في ظل تقاتل أوسع بين القوى الإقليمية والدولية.
تحضر أنقرة أيضاً لعملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، وفي شمال العراق أيضاً، في مواجهة قيام أي امتداد للقوى الكردية، وذلك بالتنسيق مع الحكومة العراقية.
إذ منذ الأيام الأولى لمعركة طوفان الأقصى، حاولت إيران الاستخدام والاستفادة، عززت من وضعها على طاولة المفاوضات انطلاقاً من معادلة وحدة الساحات ما بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط. ودخلت في مفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة الأميركية. ذلك استدعى ضربات إسرائيلية قاسية، ردت عليها طهران بشكل مضبوط ومدروس ومنسق مع الأميركيين لترد تل أبيب ويتم تصفير الجبهة عند هذا الحد ويتركز القتال بشكل غير مباشر، علماً أن طهران عقدت جلسات تفاوض قبل أسبوعين مع الأميركيين في سلطنة عمان للبحث في ملفات عالقة بينهما. كل ذلك على وقع حرب غزة.
ما بعد أميركا وإيران، يبرز مجدداً دور متقدم لتركيا، التي تطالب بها حركة حماس كجهة ضامنة لأي اتفاق في قطاع غزة، وربما للمرحلة المقبلة التي تلي الحرب، في موازاة تعزيز أنقرة لعلاقاتها مع الدول العربية، بالإضافة إلى إمكانية أن تلعب دوراً أساسياً في المفاوضات للوصول إلى حل لوقف الحرب، ولكن في الموازاة أيضاً، تعزز تركيا من حضورها على المسرحين الإقليمي والدولي، أولاً من خلال طريق الازدهار الذي جرى توقيعه في العراق والذي يربط الخليج مروراً بالعراق وتركيا وصولاً إلى أوروبا، وهو مشروع يندرج في سياق التسابق والتنافس على المعابر والممرات الدولية، وهو مشروع بديل ومواجه لما جرى الإعلان عنه قبل أسابيع من عملية طوفان الأقصى وهو مشروع طريق الهند.
تحضر أنقرة أيضاً لعملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، وفي شمال العراق أيضاً، في مواجهة قيام أي امتداد للقوى الكردية، وذلك بالتنسيق مع الحكومة العراقية، الأمر الذي سيزيد من منسوب التشنج الإيراني التركي خصوصاً أن أي نشاط لتركيا على الحدود السورية العراقية سيؤثر على الممرات التي تسيطر عليها طهران ما بين البلدين كجزء من طرق الإمداد، ليضاف هذا الملف كعنصر جديد لتوتر العلاقات بين تركيا وإيران بعد طريق الازدهار. لكن اللافت أن هذه التطورات تحصل على وقع المفاوضات الإيرانية الأميركية، وإلغاء زيارة الرئيس التركي إلى الولايات المتحدة الأميركية ما يعكس تشنجاً أو عدم تناغم كامل بين الأميركيين والأتراك.
إلغاء زيارة الرئيس التركي إلى الولايات المتحدة الأميركية ما يعكس تشنجاً أو عدم تناغم كامل بين الأميركيين والأتراك.
مشهد آخر من مشاهد المفارقات التي لا بد من تسجيلها، وهي التعاطف الكبير من قبل شعب الثورة السورية مع حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، والتي أيضاً تتلاقى مع تعاطف إيراني والقوى التي كانت معادية للثورة السورية مع حماس والمقاومة الفلسطينية، في حين يحيّد النظام السوري نفسه عن ذلك، فلم يصدر أي موقف ولم يتخذ أي خطوة للتعاطف أو التضامن أو الدعم، في حين أن المعطيات تفيد بأنه قد رضخ للتهديدات الإسرائيلية بعدم الانخراط وعدم السماح بفتح الجنوب السوري أمام القيام بأي عمليات.
هذا النوع من التقلبات ومن عدم توفر أي وجهة سياسية واضحة أو موحدة في المنطقة، من شأنها التأسيس لإطالة أمد حالة الانهيار المديد والعميم القائم وهي بالتأكيد لن تستدعي صراعات إقليمية ودولية على هذه الساحات التي تتعاطى معها الدول من منظار إغاثتها إنسانياً وتجنيبها "المجاعات".