مرّ خبر وقف إيران لرحلاتها الجوية المدنية إلى سوريا من دون أي تفاصيل أو ذكر للأسباب. لكن الخبر بحد ذاته يشكل تطوراً هاماً يستحق التوقف عنده ربطاً بكثير من الأحداث التي تشهدها المنطقة. فليس من السهل أن توقف إيران والتي لديها وجودٌ عسكريٌ وأمنيٌ في سوريا رحلاتها المدنية إلى هناك، خصوصاً أنها التي كانت تسعى منذ سنوات إلى ترسيخ طريقها البري من طهران إلى بغداد فدمشق فبيروت. وهذا الطريق الذي يتعثر دوماً ويتعرقل بفعل الوجود الأميركي على الحدود السورية العراقية. يأتي الخبر بعد سلسلة استهدافات إسرائيلية لأهداف إيرانية في سوريا، بينها مواقع ومراكز عسكرية وبينها شخصيات وقادة في الحرس الثوري الإيراني.
لكن المعركة الأساسية بالنسبة إلى الإسرائيليين مع الطيران الإيراني قديمة وتعود إلى عام 2020، في تلك السنة اعترضت طائرة إسرائيلية طائرة مدنية إيرانية تابعة لخطوط ماهان الجوية فوق دمشق ومنعتها من أن تحط في المطار فحولت الطائرة وجهتها إلى لبنان. وفي الأسبوع الأول لاندلاع عملية طوفان الأقصى، اعترضت طائرات إسرائيلية طريق طائرة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي كان يتوجه إلى سوريا، فضرب الإسرائيليون مطاري حلب ودمشق ما منع عبد اللهيان من الوصول إليهما فتحولت وجهة الطائرة إلى بغداد وبعدها إلى بيروت التي انتقل منها براً إلى سوريا.
لا يمكن إغفال حجم الضغوط التي يتعرض لها النظام السوري من جهات عربية وغير عربية لوقف مسار التحامه الكامل مع إيران
لا يمكن فصل هذا الإجراء الإيراني عن كل تطورات الوضع في سوريا ربطاً بما يجري في المنطقة، خصوصاً في ظل انعدام الثقة بين الإيرانيين من جهة والنظام السوري من جهة أخرى التي نتجت عن عمليات الاغتيال الإسرائيلية على الأراضي السورية هذا من جهة. ومن جهة ثانية يأتي اللاموقف السوري إزاء ما يجري في غزة وعدم الانخراط في الجبهة مؤشراً على تباعد في وجهات النظر، إلى جانب مفاوضات عديدة يسعى النظام السوري للقيام بها لتجنب التصعيد ولفتح خطوط وقنوات التواصل لإبداء الاستعداد لإعادة مسار التفاوض مع إسرائيل. أيضاً لا يمكن إغفال حجم الضغوط التي يتعرض لها النظام السوري من جهات عربية وغير عربية لوقف مسار التحامه الكامل مع إيران.
في المقابل، وجد النظام السوري نفسه في مأزق كبير يرتبط باستمرار علاقته مع إيران التي تطالبه دوماً بسداد الديون المتوجبة عليه لقاء تدخلها لدعمه وإسناده، وهذه الديون التي تطالب بها طهران تبلغ عشرات مليارات الدولارات، في حين تسعى دوماً لاستردادها عن طريق استثمارات طويلة الأجل أو استملاكات إلى حدّ سيخنق النظام في النهاية. هنا لا بد من الإشارة إلى خلافات إيرانية داخلية حول الجدوى من كل هذا التدخل في سوريا والذي استنزف الخزينة الإيرانية، في حين كان هناك من يراهن على التعويض عن الخسائر باستثمارات في مجالات متعددة من الثروات الطبيعية التي تمتلكها سوريا لكن ذلك لم يتحقق لطهران، وهنا يندرج ذلك كأحد أسباب إلغاء رحلات الطيران.
هناك خشية إيرانية أن لا تكون سوريا منطقة آمنة بالنسبة إلى الوجود الإيراني، خصوصاً في ظل الاستعداد الإسرائيلي للتصعيد
ولكن يبقى الأهم هو التطورات المقبلة على المنطقة والتي قد تستشعر فيها إيران مخاطر كبرى في حال توسع الصراع المندلع ليشمل لبنان وسوريا، فهناك خشية إيرانية أن لا تكون سوريا منطقة آمنة بالنسبة إلى الوجود الإيراني، خصوصاً في ظل الاستعداد الإسرائيلي للتصعيد. ولا ينفصل هذا الصراع على النفوذ عن كل ما يجري في غزة ولبنان، لا سيما بعد العودة الأميركية إلى الشرق الأوسط من بوابة الميناء العائم فوق بحر غزة والذي سيعيد الجنود الأميركيين إلى المنطقة، وستكون الولايات المتحدة موجودة على البحر الأبيض المتوسط في مواجهة الوجود الروسي على ميناء اللاذقية ومنع إيران من تحقيق موطئ قدم ومعبر استراتيجي لها إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا.
واللافت أن ذلك يأتي بعد ما أعلنه مستشار الرئيس الإيراني وأمين المجلس الأعلى للمناطق التجارية الصناعية الحرة والاقتصادية الخاصة في إيران، حجة الله عبد المالكي، الذي كشف عن التوصل إلى اتفاق مع 5 دول بينها سوريا والعراق، من أصل 21 دولة تتباحث معها إيران لإنشاء منطقة حرة مشتركة. والذي رأى أن إنشاء منطقة حرة ثلاثية مشتركة سيجعل وصول إيران إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط سهلاً للغاية، كما سيعود بالنفع على الدول الثلاث. وهذا مسار لا يزال يتعثر بفعل الصراع القائم على الممرات والمعابر.