ربما مصادفة أن تتزامن "الانطلاقة الجديدة" لتلفزيون سوريا، مع جلسة "عصف فكري" وزعتها وكالة سانا الرسمية للأنباء بين بشار الأسد ووزير خارجية أبخازيا.
لكن المصادفات غالباً ما تصنع أحداثاً يمكن المراكمة عليها، أو تفتح مجالات لمعارك وتحديات جديدة، سيجد تلفزيون سوريا نفسه معنياً بها في إطار معارك صناعة الرأي العام وتقديم محتوى يتماشى مع العقل والعصر، طالما أنه مشروع قائم على إعادة تشكيل رأي عام سوري بعيداً من كل الأدلجات التي طبعت سوريا بعثياً أو من قبل غير البعث.
إن التحدّي المتجدد لتلفزيون سوريا في الاستمرار وفي إعادة صناعة الذات وتكوينها كجزء من عمل تأسيسي مستقبلي في عالم صناعة الرأي العام. وهذا الذي تتركز عليها معارك عالمية، تتزايد أكثر في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة من خلال صناعة سردية معارضة للسرديات السائدة غربياً، كما كان من قبل هناك سعي لصناعة رأي عام عربي مناهضة للسرديات التي تقدمها "المؤسسات التقليدية" في سوريا وغير سوريا.
وهذه جزء من مهمة شاقة وطويلة يضطلع بها تلفزيون سوريا وغيره من المشاريع الإعلامية التي لا بد من تلقفها وتعزيزها في إطار التأسيس لصناعة السياسات وليس فقط صناعة الرأي العام. إنما الهدف هو إعادة تشكيل الوعي السياسي أو الثقافي أو الاجتماعي، وهذا مشروع أكثر من ضروري.
بلا شك أن أي محاولة للتعامل الجديّ مع كلام بشار الأسد ونديمه وزير خارجية أبخازيا، لا بد أن تكون فاشلة، لأن مضمون الكلام يكسر ألف باء العلاقة مع الواقع ومع اللغة. ويمكن وضعه خارج إطار العلوم السياسية. فمقاربة هذا الحوار والذي يبدو هزلياً بعض الشيء، تجوز أن تحمل الكثير من مادة الكوميديا السوداء، فهي لا تدخل في باب الدعائيات، ولا في باب تناقض مصالح أو أفكار ولا تأتي من أي ثقافة عقائدية حتى، لدرجة أن الرطن بكلمة الهوية الوطنية وخصوصياتها، ثم وصف ذلك بأنه مصطلح فضفاض يحيل كل الكلام إلى هباء لا يمكن صنع أي مادة للسجال أو النقاش. والغريب أن الاثنين يشبهان في حوارهما أحلام يقظة لأسيري أزمان ماضية.
حاول النظام السوري بناء سردية مواجهة "الإرهاب" أو القوى المتطرفة، في لعبة الرأي العام التي خاضها.
في حفلة العصف هذه، يكمن خوف كبير، لأنها نابعة من رجل يتحكم ببلد وشعب وربما يطمح لما هو أكثر، ويذكر سلوكه وكلامه بأكثر روايات أميركا اللاتينية تطرفاً في تصوير الديكتاتور.
وليس من المصادفة أن تكون الانطلاقة المتجددة لتلفزيون سوريا في ظل أكبر صراع إعلامي يأخذ طابعاً عالمياً إزاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي تشهد أعتى المجازر وأكثر عمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي برعاية عالمية. هي حالة متشابهة تماماً مع التراجيديا السورية التي تفجرت في العام 2011 على مرأى العالم أيضاً تجزيراً وتهجيراً، وقد استند ذلك إلى محاولة النظام بناء سردية مواجهة "الإرهاب" أو القوى المتطرفة، في لعبة الرأي العام التي خاضها.
منذ اندلاع الحرب على غزة، تنجح وسائط إعلامية متعددة في ضرب السردية الغربية تجاه المقاومة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، تماماً كما كان هناك سرديات غربية معارضة لسردية النظام في دمشق الذي عمل على تبرير بقائه ووجوده إما بالمصالح والتقاطعات الدولية، وإما لأنه لا بديل عنه، وإما بوصفه أقلوياً، وإما باعتبار أن من سيحل مكانه هي القوى المتطرفة أو الإرهابية. هنا مكمن التحدي للانطلاقة الجديدة لتلفزيون سوريا كما لغيرها من الوسائل الإعلامية التي هدفها إعادة تشكيل رأي عام يدحض السردية التقليدية، وربما أكثر ما يساعد هو حجم التعاطف الشعبي في الغرب مع الفلسطينيين والقضية الفلسطينية من خلال تظاهرات واسعة شهدتها أكبر مدن الغرب التي لطالما كانت مساندة للسردية الإسرائيلية.
ما سيكون ملقى على عاتق تلفزيون سوريا وغيره من الوسائل الإعلامية هو معركة أطول، ومسؤولية أكبر.
هناك تشققات بدأت تظهر في الموقف الغربي تجاه تأييد الحرب الإسرائيلية على غزة، تظاهرات جامعة كولومبيا ليست بالأمر البسيط أو التفصيلي، بل هي مؤشر على رأي عام أميركي قابل لتشكيل رأي عام عالمي انطلاقاً من صفوف الشباب الغربي، هي بالتأكيد ليست مسألة عابرة، فهؤلاء الشبان والذين يعتبرون من النخبة التي سيكون لها أدوار قيادية وريادية في المستقبل وبعضهم سيكون من أصحاب القرار، ما سيشكل قطعاً مع السردية التي يمثلها مسؤولون أصبحوا كباراً في السن وهو ما سيؤسس ربما لتعاط أميركي جديد مع القضية الفلسطينية. في هذه المعركة، فإن ما سيكون ملقى على عاتق تلفزيون سوريا وغيره من الوسائل الإعلامية هو معركة أطول، ومسؤولية أكبر.