في يوم الجمعة الماضي، الذي صادف اليوم العالمي لحرية الصحافة، أصدرت منظمة «مراسلون بلا حدود» مؤشرها السنوي لحرية الصحافة. ومن أصل 180 دولة شملها التصنيف احتلت سوريا المرتبة 179 لأنها من أخطر البلدان على سلامة الفاعلين الإعلاميين على حد تعبير المنظمة.
يعرف السوريون أن هذا الوصف ينطبق على مختلف السلطات القائمة في بلادهم، وإن تقدّمها نظام الأسد في عدد من استهدفهم من الإعلاميين، قتلاً وإخفاء واعتقالاً، أو كماً آمناً للأفواه في أحسن الأحوال.
والحق أن سوريا شهدت انفجاراً إعلامياً بعد الثورة في 2011، لا يمكن تقدير حجمه الحقيقي إلا باستعراض قائمة المنابر التي نشأت منذ ذلك الحين، مما لا يمكن فعله هنا، وشملت مئات المجلات والجرائد المكتوبة، وعشرات الإذاعات، وعدداً من القنوات التلفزيونية. وقد أغلقت معظم التجارب تحت وطأة ملاحقة الكوادر المؤدية إلى هجرتهم، وضعف التمويل أو انعدامه، ونقص الخبرة، وأسباب شتى.
إلى الأجيال الأولى من هذه المحاولات بات يُنسب، اليوم ومنذ عدة سنوات خلت، الإفراط في التفاؤل والتجييش، والمبالغة في الأخبار. حتى عُدّت أحد أسباب الهزيمة وشيوع مشاعر القنوط وعدم التفاعل مع «البشائر» في الوقت الحالي.
لا يمكن نفي هذا الاتهام. غير أن تحميل الإعلام مسؤولية التراجع الذي أسهمت في صنعه دولة كبرى (روسيا) وأخرى قوية إقليمياً (إيران) وجيش محلي وميليشيات مستجلبة، أمر فوق طاقة هذا العامل الرافد من القوة الناعمة.
لكن ما يهمنا هنا، في شأن حرية الصحافة، هو أن الجمهور فرض ما يطلبه على تلك المنابر ووجّهها إلى ما يحب أن يقرأ ويسمع ويشاهد، تحت طائلة العقوبة القصوى التي يستطيع أن يوقعها على أي وسيلة إعلامية؛ الإهمال والتهميش.
فأي إثارة في موقع لا ينشر إلا «فضيحة» واحدة كل عدة أشهر، بعد أن يتوثق منها ويجمع الأدلة التي تقنعه وتحميه عند اللزوم؟
وباستعراض مسيرة الإعلام الثوري، المكتوب على وجه الخصوص، نعثر على نماذج متميزة كان وراءها صحافيون محترفون في الأساس، بأسماء صريحة أو مستعارة، اتسمت بالدقة في إيراد المعلومة، قدر المستطاع، واتزان التحليل. لكنها لم تستطع أن تنافس جدياً أمام تجارب وُلدت كيفما اتفق واعتمدت التهويل والتحريض ولم تلتزم بحد أدنى من المعايير المهنية، حتى اشتهرت بأنها منابر «اسمع وكبّر يا بطل»، وهي الصيغة التي كانت سائدة في خطاب «المراصد» الذين يبثون عبر «القبضات» المحلية المحمولة ما شاؤوا، أو ما أراد جمهورهم أن يسمع أو يقرأ على فيسبوك.
غير أن «البطل» اليوم كسير، يقيم في خيمة أو في منزل نزوح مستأجَر بائس أو بيت لجوء بارد، يستعيد خيباته التي أعقبت ذلك التفاؤل السهل ويُبحر في التيه دون أفق. ومن هنا انقلبت حاجاته من العزف على وتر النشوة الصاعدة إلى الحذر من أي أمل. وفي أجواء الهزيمة يتجه المرء إلى لوم ذاته الفردية أو الجماعية بقسوةٍ جلادة، ويدمن «تفلية» الصف الصديق بحثاً عن الخونة والمتآمرين الذين تسببوا في الكارثة.
وقد استجابت لهذه الاحتياجات منابر جديدة احترفت التشكيك والإسقاط. فجميع من يتصدّرون، ولو موقعاً بسيطاً كإدارة مخيم، لصوص أو عملاء للنظام. لا يُستثنى من ذلك إلا من قضوا نحبهم، الشهداء على وجه الخصوص، ممن دفعوا ثمن صدقهم وحجم الخيانات حولهم، حتى استطاع المتآمرون والفاسدون إقصاء كل «حرّ شريف» عن المشهد والاستئثار بالموارد وتسخيرها لجمع الثروات والانغماس في الملذات وتبادل المنافع.
تتطلب هذه البضاعة الإعلامية ضخاً متجدداً مستمراً. فأي إثارة في موقع لا ينشر إلا «فضيحة» واحدة كل عدة أشهر، بعد أن يتوثق منها ويجمع الأدلة التي تقنعه وتحميه عند اللزوم؟ ولذلك رحلت هذه المنابر إلى طبقات قاعية من عالم الإنترنت، ولا سيما بعد انتشار التلغرام الذي يكاد يخلو من الرقابة، فأنشأت عليه قنوات صفراء تنشط يومياً في نشر الاتهامات التي يصعب التحقق من صدقها، وتبث في المناخ مزاجاً عدمياً قانطاً.
في حين أن المنابر الإعلامية المعلَنة، المرخصة قانوناً هنا أو هناك، لا تستطيع المجاراة في هذه السوق السوداء. فلجأت إلى حزمة من المواد الجاذبة كالرياضة والدراما، كيلا تبدو منصة ذات وجه رصين متجهم متكرر يؤدي إلى ملل المتلقي وانصرافه عنها.
إفراد الصحافة السورية، الثورية أو المعارضة، بالتقريع، في بعض الأحيان، دون أخذ المناخ السياسي والثقافي والمزاجي للسوريين عبر السنوات المختلفة في الاعتبار، أمر ينطوي على كثير من الجور
لا تدخل «سلطة الجمهور» في المعايير الرسمية المعتمدة لحرية الصحافة. لكنها عامل لا يمكن إغفاله عند النظر إلى أي تجربة إعلامية من ناحية المحتوى والشكل.
في كل أرجاء العالم يُقبل الناس على المواد المسلية والترفيهية أكثر من اهتمامهم للمضمون الجاد المتعِب. غير أن قدرتهم على الوصول إلى أخبار موثوقة وتحليلات محترفة تكون أكبر في دول تنتشر فيها الخبرات المختصة والمعايير المهنية، وترتفع سوية متطلبات الجمهور وقدرته على محاكمة ما يتلقى من المواد الإعلامية.
ولذلك فإن إفراد الصحافة السورية، الثورية أو المعارضة، بالتقريع، في بعض الأحيان، دون أخذ المناخ السياسي والثقافي والمزاجي للسوريين عبر السنوات المختلفة في الاعتبار، أمر ينطوي على كثير من الجور، ويحمّل أحد عناصر الحياة العامة ما يجب أن تسهم في ترقيته عوامل متضافرة، تبدأ من التعليم وتمرّ عبر الثقافة وتصل إلى الاجتماع والسياسة، التي لولا فقدها وعسر العثور على حلّ فيها لم يطلب الجمهور أن يعيش على الأوهام الوردية في أول الأمر، أو ينغمس اليوم في استعراض هروبي لمقاطع متلاحقة من التيكتوك والريلز.