عندما يقرّر شخص ما اتخاذ الخطوة الحاسمة للهجرة من بلده، فإنّه يفتح بذلك باباً جديداً على نفسه من التحديات والتغيرات التي تؤثر على حياته بشكل عميق وعاطفي، فالهجرة ليست مجرّد تغيير في المكان، بل تحوّل داخلي يلامس كل جانب من جوانب الذات.
يشعر الشخص المهاجر مع مرور الوقت بالاضطراب والاستياء، حيث يجد نفسه غريباً في بيئة غير مألوفة، يواجه تحديات التكيّف مع ثقافة جديدة ولغة غير معروفة، وقد يعاني من الشعور بالعزلة والوحدة، فتنهمر عشرات الأسئلة على ذاته، عمّا إذا كان قد اتخذ القرار الصحيح وإن كان بإمكانه الاندماج في المجتمع الجديد.
ومع مرور الزمن والتكيّف التدريجي، قد ينمو الشخص ويتطور، فيبدأ في بناء أواصر جديدة مع الناس، يكتسب مهارات جديدة، ويكتشف إمكاناته الكامنة، ويتعلّم التغلّب على التحديات والصعاب، ويكتشف قوته الداخلية وقدرته على التكيّف.
عندها تتحوّل الهجرة من تجربة صعبة إلى فرصة للنمو الشخصي والثقافي، فتتوسع آفاق ومدارك الشخص، ويكتشف أنه أقوى وأكثر إبداعاً مما كان يعتقد، عندها قد يتغلّب على الحزن والاشتياق ويبني حياة جديدة مليئة بالأمل والإيجابية.
إلا أن نجاح التجربة قد لا ينطبق على جميع المهاجرين، إذ إنّ أسرة الشاب السوري (عبد الجبار أوسو) المنحدر من محافظة حلب، لم تستطع التأقلم مع العيش في سويسرا، فقرّرت العودة منذ نحو عام إلى مناطق شمال غربي سوريا، ومع أن قرار العودة اتخذ بعد تفكير دام لأشهر، إلا أن مشاعر الندم سيطرت على الأسرة بعدما اصطدمت بالواقع.
هجرة من حلب إلى سويسرا
قرّر الشاب عبد الجبار أوسو الملقب "أبو ثابت" الهجرة برفقة أسرته (5 أطفال) من محافظة حلب إلى سويسرا، عام 2017، رغم كونه أحد القياديين في الجيش السوري الحر، ومؤسس كتيبة مسلّحة في مدينة حلب.
ينحدر أوسو من بلدة حيّان شمالي حلب، ويقول في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، إنه شارك في الثورة منذ انطلاقتها، وأسّس "تنسيقية حيان"، ثم شكّل كتيبة "سيوف الشهباء" في مدينة حلب، وكان عضواً مؤسساً في المجلس العسكري الثوري لحلب وريفها.
ويضيف أن فكرة الهجرة كان مستبعدة بالنسبة له، مردفاً: "لكن مع بداية عام 2016 بدأت تتغير الأفكار، إذ بدأت عملية سلب القرار من الفصائل وقادتها، ليصبحوا مجرد أحجار شطرنج، مع سوء الواقع المعيشي، وتصدر أراذل الخلق للمشهد"، بحسب وصفه.
ويرى "أبو ثابت" أن هناك عملية ممنهجة اتُبعت لإفراغ المنطقة من "كل حرّ"، إذ يُجبر الشخص على خيارين: إما أن ينخرط بالمنظومة الفاسدة، أو الإقصاء، مضيفاً أنه ضُيّق عليه بلقمة عيشه بعدما أصر أن تكون العلاقة مع الدول كـ"ندّ وليس تَبعاً".
ووصل "أبو ثابت" وأسرته إلى سويسرا بعد عناء طويل، وتعقيدات واجهته في الإجراءات لكونه قاد مجموعة مسلّحة في وقت سابق، لافتاً إلى أنّ مختلف متطلبات الحياة متوفّرة هناك من عمل وتعليم وغير ذلك، إلا أنه لم يستطع العيش بسعادة أو يتأقلم مع الواقع.
مسبّبات العودة إلى سوريا
عادت عائلة "أبو ثابت" إلى الأراضي السورية عبر تركيا، في 4 آب 2022، وقضت بعض الوقت في مدينة اعزاز شمالي حلب، ثم قرّرت الاستقرار في مدينة عفرين المجاورة.
عن مسبّبات العودة، يقول أوسو: "في سويسرا لم أشعر أنني صاحب كيان، شعرت أنني أرعى أولادي من أجل الدولة التي يعيشون فيها فقط، وأنني أعيش على الهامش، فلا حياة اجتماعية هناك، على العكس، كنت كئيباً طوال الفترة، وربما أنا حالة استثنائية فالأمر لا ينطبق على جميع المهاجرين".
ويضيف: "دخلت في حالة نفسية صعبة، فقد حمّلت نفسي مسؤولية ما يحصل في سوريا، خاصة عندما أرى مشاهد القصف والدمار ومعاناة الأطفال في المخيمات".
ولا ينكر "أوسو" أنه عانى كثيراً قبل اتخاذ قرار العودة، لكنه حسم أمره في نهاية المطاف، إذ وصلت أسرته إلى تركيا عبر "الفيزا السياحية"، ثم دخلت الأراضي السورية عبر طرق التهريب.
"ندم وصدمة من الواقع"
بعد نحو عام من العيش في شمالي سوريا، يؤكد "أوسو" أنه نادم على قرار العودة من سويسرا، ويعتزم إعادة أسرته إلى هناك، بعد أن صُدم بالواقع، وأنّ الأسباب التي دفعته إلى الهجرة قبل سنوات ما تزال قائمة.
وتابع: "عانينا من الفوضى وعدم الاستقرار، وضعف التعليم، مع شح فرص العمل، وصرف معظم الأموال التي كنت قد جمعتها خلال عملي في سويسرا".
ويرى "أبو ثابت" أنّ هناك "سياسة ممنهجة لإيصال السوريين إلى ما وصلوا إليه، إذ يتعين على السوري التقوقع ضمن المنظومة الفاسدة، أو أن يموت بالطرق المختلفة".
وأشار "أبو ثابت" إلى أنّه بعد عودته إلى سوريا عُرض عليه الانضمام إلى عدة فصائل عسكرية، وشغل مناصب قيادية فيها، إلا أنه رفض، على اعتبار أن ذلك "لا يتناسب مع مبادئه الأخلاقية والثورية والإنسانية"، وفق قوله.
ويحاول "أبو ثابت" الآن إرسال أسرته إلى سويسرا، ثم يلحق بهم عبر "لم الشمل"، على اعتبار أن إقامتهم في سويسرا ما تزال سارية، وهناك تواصل مع السفارة السويسرية في تركيا لتقديم التسهيلات، إلا أنّ العقبة تكمن في طريقة العبور من شمالي سوريا إلى تركيا، والتي غالباً ما ستكون عبر طرق التهريب الخطرة.
دوافع هجرة السوريين وشروط عودتهم
هناك أسباب كثيرة دفعت السوريين إلى الهجرة، في مقدمتها حرب النظام السوري على الشعب، واتباعه سياسة القتل بمختلف أنواع الأسلحة الفتاكة والمحرمة دولياً، فضلاً عن الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتجنيد الإجباري، مع سوء الواقع الاقتصادي والمعيشي وشح فرص العمل والفقر، وغياب الرغبة الدولية بالتوصل لحل سياسي يضمن حقوق الشعب السوري.
ولكي يعود السوريون إلى بلادهم، يجب أن تتوفّر عدة شروط منها: وقف الأعمال الحربية، التوصل لحل سياسي، عزل النظام الحالي، سحب الميليشيات المسلحة، إزالة الألغام، تقديم ضمانات حقيقية بعدم اعتقال وملاحقة العائدين، توفير البنية التحتية وفرص العمل وتحسين الواقع الاقتصادي، وغيرها من الشروط التي لا يبدو أنها قيد التطبيق على المدى المنظور، ما يعني تعذر عودة اللاجئين في ظل الواقع الحالي.
ويعتقد كثيرون أنّ الهجرة هي خيار شخصي يعود للفرد نفسه، حيث يقرّر ذلك من عدمه بناءً على الظروف والاحتياجات الشخصية، مع الأخذ بعين الاعتبار العديد من العوامل المحيطة، مثل البحث عن فرص أفضل، والهروب من الظروف الصعبة، كالحرب والاضطهاد، أو البحث عن أمان وحماية، أو فرصة لتحقيق الأحلام الشخصية وتعزيز المستقبل، وهذا يتطلب التكيف مع ثقافة ولغة جديدة، مع التشبث بأمل العودة إلى الموطن الأصلي في حال توفّرت المتطلبات اللازمة وانتفت الشروط التي دفعت بالأصل إلى الهجرة.