أثار قرار تركيا إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية التي تحمل عتادا أو عساكر إلى سوريا، موجة من التكهنات عن أسباب القرار والمراد التركي منه، لا سيما أنه الأول من نوعه ويحمل رسائل سياسية وميدانية كبيرة مدفوعة بتطورات في سوريا وأوكرانيا معا، فالقرار يحرم موسكو من استخدام الأجواء التركية لأغراض عسكرية، ولهذا القرار جملة من الإرهاصات التي أدركها الساسة الأتراك، كان أولها التطورات في شمال غربي سوريا، وشن روسيا ضربات جوية وإجراؤها تدريبات جوية قرب الحدود مع تركيا، إضافة إلى أن القرار كان بمثابة تجديد على الموقف التركي الرافض للغزو الروسي لأوكرانيا.
إغلاق المجال الجوي التركي سيمنع روسيا نسبيا من نقل مرتزقة من سوريا إلى أوكرانيا، وبالتالي هو قرار متفق عليه مع واشنطن، ما يشير إلى انعكاسات للقرار التركي على أكثر من ملف.
ضربتان بحجرة واحدة
وجهت أنقرة ضربتين لروسيا باتخاذها قرار إغلاق مجالها الجوي لأي طائرات روسية تحمل أي شيء متعلق بالعسكرة، وهذا أولا يحد من قدرات روسيا الجوية في شمال غربي سوريا، والحد من تلك التحركات يعني التخفيف منها وليس إنهاءها بشكل كامل، وثانيا وضع حجر عثرة أمام مساعي روسيا لنقل مرتزقة من سوريا إلى أوكرانيا، حيث ستكون موسكو مجبرة على استخدام الخط البديل.
وأوضح المحلل السياسي محمود علوش في تصريح لموقع تلفزيون سوريا أن قرار أنقرة سيحرم روسيا من الاستفادة من الأجواء والمضائق التركية في عملية نقل المقاتلين والمرتزقة إلى ساحات القتال في أوكرانيا. مع ذلك، فإنه من غير المرجح أن توقف القيود حركة الجنود والأسلحة والمرتزقة من سوريا إلى روسيا، حيث إن موسكو ستُحول على الأرجح رحلاتها الجوية عبر المجال الجوي الإيراني والعراقي.
واعتبر علوش أن القرار التركي يُعد مؤشراً مهماً على إدراك أنقرة لمخاطر التأثيرات المحتملة لمثل هذه الخطوات على علاقاتها الواسعة مع روسيا. على المدى المنظور ستكون روسيا قادرة على التكيّف مع القيود التي فرضتها تركيا على طرق وصولها إلى سوريا، لكنّ إطالة أمد هذه القيود ستخلق تحديات لوجستية خطيرة عليها في عملية التجديد الروتينية لأصولها العسكرية في سوريا لا سيما تلك المرتبطة بالقوات البحرية على وجه التحديد، ما يجعل قدرة موسكو على إنهاء هذه القيود مرهونة بمرونتها في إبرام اتفاق سلام مع كييف لإنهاء الحرب.
بينما اعتبر الباحث في مركز جسور للدراسات عبد الوهاب عاصي أن إعلان تركيا إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية باتجاه سوريا أكثر من رسالة احتجاج وأقل من أزمة دبلوماسية، وأن إعلان أنقرة أنّ القرار جاء بالتنسيق مع موسكو لا يبدو أكثر من إجراء للحفاظ على الدبلوماسية، لكونه غالباً اقتصر على الإخطار مع تقديم المبررات التي قد ترتبط إما بأمن القوات التركية في سوريا نتيجة تقليص روسيا للالتزامات بموجب آليات العمل المشترك، أو بدورها كوسيط في أوكرانيا، على اعتبار أنّ السماح بنقل المرتزقة عبر الأجواء التركية قد يؤثر على موقفها أو يقوض الثقة بها.
أميركا صامتة وتراقب بحذر
تزامن القرار التركي مع حديث عن تقارب بين تركيا وأميركا في الملف السوري، وبالتحديد حيال مناطق تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في شمالي شرقي سوريا، وهذا التفاهم - إن وجد - سيولد تحركاً تركياً في المنطقة ليس بالضرورة أن يكون عسكرياً، لكنه يعيد الكرة للأتراك ويعطيهم حيزاً للتحرك في المنطقة، وهذا ظهر من خلال تزايد الضربات الجوية التركية على قسد واستهدافها قيادات من حزب العمال الكردستاني على مقربة من القوات الأميركية التي لم تعلق على التطورات سوى بإعرابها عن قلقها العميق من الأمر.
رفضت الخارجية الأميركية التعليق لتلفزيون سوريا على القرار التركي بإغلاق المجال الجوي أمام روسيا، وعلى تزايد العمليات العسكرية التركية في شرقي الفرات، وعدم التعليق الأميركي يتزامن مع جولة من المباحثات تعقد بين تركيا وأميركا في العاصمة أنقرة، فواشنطن قد تدرك حساسية أي تصريح وتأثيره على مسار التفاوض مع الأتراك لا سيما أنها بحاجة لأنقرة في الملف الأوكراني، لكونها تعتبر دولة وسيطة، وتريد واشنطن سد الثغرات أمام الروس لزيادة حصارهم.
أنقرة ستتحرك في شرقي الفرات
تقول مراصد مختصة بحركة الطائرات إن موسكو تعتمد على المجال الجوي التركي بالوصول إلى سوريا بنسبة 50 في المئة، وهذا يعني أن موسكو ستلجأ إلى البديل المتمثل بخط العراق - إيران - بحر قزوين وبالنظر إلى هذا الخط فإنه سيكون مكلفا على موسكو من ناحية المدة والمال للتنقل، وبالتالي الحد نسبيا من التحرك الروسي في سوريا، وهنا تبدي "قسد" مخاوفها من الأمر وجاء على لسان آلدار خليل المسؤول فيها حيث قال إن تركيا تحشد لعملية عسكرية في شرقي الفرات، وهذا الحشد دفع قسد إلى تعزيز نقاطها العسكرية في أكثر من منطقة شرقي الفرات.
تتقاطع تحذيرات خليل مع ما قاله المحلل السياسي التركي باكير أتاجان خلال لقاء على برنامج سوريا اليوم على شاشة تلفزيون سوريا، حيث أكد أن القرار التركي إغلاق المجال الجوي أمام روسيا ناجم عن تفاهم أميركي تركي، "قسد" أكبر الخاسرين منه، وأن أنقرة ستشن عملية عسكرية ضد قسد بتغاض أميركي عن الحدث.
كلام أتاجان يتقاطع مع تصريح المحلل السياسي محمود علوش الذي قال فيه أيضاً، إنه يُمكن النظر إلى العملية العسكرية الجديدة التي أطلقتها تركيا مؤخراً ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق على أنها تمهيد لهجوم مماثل محتمل على "قسد" لا سيما أن موسكو ما تزال ترفض التعاون الجدي مع أنقرة في هذه المسألة، فضلاً عن أن التقارب التركي الأميركي الذي برز مؤخراً على خلفية الحرب الأوكرانية قد يُتيح لأنقرة هامشاً أوسع للتحرك ضد قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
في حين رأى الباحث عبد الوهاب عاصي أن روسيا مستاءة من سياسات تركيا شرق الفرات والتي تتم أيضاً بلا أدنى درجات التنسيق العسكري والدبلوماسي، وهي تتخوف من تقويض نفوذها شرق الفرات وحتى غربه في حال تحقيق تقدم في التنسيق بين الولايات المتحدة وتركيا لأنه سيؤدي إلى تغيير الأخيرة لقواعد الاشتباك في سوريا بما قد يزعزع الثقة والعلاقة بين روسيا وقوات سوريا الديمقراطية.
روسيا ستلعب أوراقها في سوريا
تمتلك موسكو علاقات لا بأس بها مع قوات سوريا الديمقراطية، وتعمل على الحفاظ عليها وظهر ذلك من خلال مساعي موسكو لإنهاء أي توتر بين قسد ونظام الأسد، ونجحت في أكثر من موضع بإنهاء التوترات والتفرغ لما هو أكبر، وهنا يمكن الحديث عن أن أي تفاهم أو تقارب تركي أميركي، ستكون قسد محط أعين موسكو، حيث اعتبر المحلل السياسي علوش أن روسيا ستسعى لجذب قسد إليها بشكل أكبر فيما لو تخلت واشنطن عنهم، فإنه سيتعين على تركيا توظيف هذا الضغط في سبيل تقوية أوراقها التفاوضية مع روسيا بما يُخلق توازناً في الشراكة بين البلدين في المسألة السورية.
في الواقع، إن جرأة تركيا على اتخاذ هذا القرار تبدو نابعة من الاستفادة من تغير أولويات السياسة الخارجية الروسية والتي باتت تضع أوكرانيا في المقدمة بعدما كانت سوريا تشغل هذه الأهمية، إضافة إلى تحقيق تقدم على الأرجح في المفاوضات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة. مع ذلك، فأنقرة حرصت على عدم تحول القرار إلى أزمة دبلوماسية طالما أنّها لم تحصل بعد على ضمانات أمنية أو تصل لاتفاق شامل مع إدارة جو بايدن.
وأمام المعطيات الجديدة في السياسة الخارجية التركية يبدو أن أنقرة تريد إعادة تقوية تحالفاتها القديمة، لكنها في المقابل تريد ما امتنعت واشنطن عن تقديمه لها، سواء في الملف السوري أو الملفات المشتركة بينهما كمقاتلات F16، وF35، وهذا يعني أن أنقرة سائرة في محاولة كسب الأوراق بدلاً من التنازل عنها مستفيدة من التحولات في المنطقة، ومساعيها في الآونة الأخيرة لتصفير مشكلاتها الخارجية.