يكثر السوريون من القول إنهم عاشوا كل الأهوال، وإنه لم يعد يخيفهم شيء في هذا العالم. كان هذا قبل الزلزال الذي وقع مؤخراً في سوريا وتركيا، أما بعده، فقد عرفوا نوعاً جديداً من الخوف، خلع قلوب ملايين الناس الرجال والنساء، الصغار والكبار، ودفع أشجع الرجال للهروب من منازلهم تاركين فيها كل ما يملكون. اكتشف السوريون، أن الزلزال خطر عظيم مفاجئ، يقع بلحظة ويشمل الملايين بالوقت نفسه، ولا وقت للهروب منه، ولا سبيل لمواجهته بأي شكل كان، وهذه صدمة جديدة كبيرة لم يكن السورين يعرفونها.
والصدمة التي يتركها الزلزال، ليست لحظات تمر وتنتهي، وإنما تترك آثاراً في النفس والأعصاب تمتد لأيام وأسابيع وربما لأشهر أو سنوات. فليس من السهل على النفس البشرية تقبل أن الأرض، وهي أثبت ما في هذا العالم، يمكن أن تفقد اتزانها وثباتها بلحظة، فتهتز وتتحرك وتمشي وتتشقق. كما لا تقبل النفس البشرية أن البيوت، وهي دار السكن والأمان والاطمئنان، يمكن أن تتحول بلحظة إلى أداة قتل وتمزيق وخنق وتدمير لأصحابها، دون سابق إنذار.
فقد الأهل والأصدقاء بالزلزال، وألم الإصابات الخطيرة، وألم فقد ممتلكات غالية وذكريات عزيزة، والرعب من تكرار الزلزال، والإحساس العميق بالعجز، وانعدام الحيلة تجاهه.. كل ذلك قد يتسبب لدى كثير ممن عاشوا هذه التجربة المرعبة، بمشكلات نفسية وعصبية تتدرج بين القلق وصولا إلى الانتحار.
الزلزال واضطرابات النوم لدى الناجين
ارتفعت حالات اضطراب النوم بين الناجين من الزلزال في سوريا وتركيا، وزادت حالات رؤية الكوابيس المرعبة، واضطراب النوم يؤدي إلى مشكلات صحية وعصبية. وقال حكمت فرات، عضو الجمعية التركية لطب النوم، لوكالة الأناضول التركية : “الخلود للنوم ليلاً مع الخوف من الزلزال، يسبب اضطرابات عصبية، سببها عدم تمكن المصابين بها من الدخول في النوم العميق، كما يعاني هؤلآء الأشخاص من الاستيقاظ بشكل متكرر أثناء الليل، الأمر الذي يحفز الدماغ على رؤية الكوابيس".
اقرأ أيضا: سوريات فقدن أعمالهن في زلزال تركيا: حكايات الخسارة وتحديات المستقبل
ونبه الطبيب التركي إلى أن ضحايا هذه الاضطرابات ليسوا فقط ممن أصابهم الزلزال مباشرة في المناطق المنكوبة وما حولها، وإنما أيضاً الأشخاص الذين يشاهدون بكثرة صور الدمار والزلزال على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام.
الأطفال السوريون وآثار الزلزال النفسية
تحولت تجربة الزلزال والخوف من تكراره وما تبعه من هزات تعد بالألوف، إلى هاجس لملايين الناس، يجعلهم بحالة قلق دائم، يضغط على أعصابهم بشدة، ويؤثر على سلوكهم وحياتهم، ويخلق لديهم سلوكيات جديدة، تدل على عمق الجرح النفسي الذي أصابهم بالزلزال، وبالنسبة للسوريين، أضيف جرح الزلزال إلى سلسلة جروح تعتمل في أعماقهم.
السيدة ريم نايف سورية مقيمة في بلدة ويران شهر التركية تقول لموقع تلفزيون سوريا :" اعتاد ابني نور وعمره 14 عاما عندما يحل المساء ويذهب إلى سريره أن يغطي وجهه بغطاء قماشي ويغلق أذنيه بيديه إثر صدمة قديمة أثرت على صحته النفسية مذ كنا في سوريا بسبب القصف والطيران.. وعندما وقع الزلزال بات وجه نور شاحبا ويرتجف من الخوف. والقلق والخوف يمنعانه من النوم".
ومن الآثار المرضية للزلزال، حالات الرهاب من دخول المنازل، وتفضيل البقاء في الأماكن المفتوحة، أو المغطاة بغير الإسمنت والحجر مثل الخيام والصالات الكبيرة.
يقول السيد محمد البرهاوي، الناجي من زلزال مدينة أنطاكيا التركية: "بعد الزلزال كنت بصعوبة أدخل زوجتي إلى البيت، وهي حتى الآن قليلة النوم وتناول الطعام، وابني عمره 7 سنوات لديه خوف قديم وألم بمعدته خوفا من أصوات طائرات النظام وهي تقصف منازلنا بسوريا والآن ازدادت حالته مع بكاء دائم".
ريم سالوخة الناجية من زلزال أنطاكيا لديها ابن اسمه أنس عمره 6 سنوات تصف لنا حالته، "في المساء يبدأ ابني بالبكاء، ينتابه خوف وقلق، لا يريد النوم، يريد أن يجلس بخيمة.. وإذا رأى ناراً يرتعب. أنا الآن في الشمال السوري عدت علني أخفف عن ابني هذه الحالة، لكن حالته تزداد سوءا مع الأسف ولا أعرف ماذا أفعل."
"الأرض تهز؟ في هزة، مو حاسين؟ عبارات ترددها أمي بخوف في اليوم عدة مرات، وهي الآن تلازم الفراش، وضغط الدم لديها مرتفع. وضعها الصحي حرج". هكذا وصفت لنا السيدة "جيهان خلف" حالة والدتها بعد زلزال الفجر وأضافت: "ابنة أخي عمرها 8 سنوات أيقظتها أمها بشكل فجائي وأصيبت على إثرها بحالة تبول لا إرادي".
ويلاحق الخوف الشابة السورية "سارة بارود" المقيمة في مدينة مرسين التركية وتخبر موقع تلفزيون سوريا: "كابوس الزلزال مازال يرافقني كل ليلة.. عندما أغمض عيني أرى أن زلزالا وقع وأن الأبنية تهدمت، فأفزع من نومي وأركض إلى إخوتي لأوقظهم من النوم خوفا عليهم".
الناجية "مثاني التبان" تقيم في الأيوبية التابعة لولاية شانلي أورفا التركية تقول لموقع تلفزيون سوريا: "لدي أخت عمرها 18 عاماً، بصورة دائمة، وخاصة في المساء، يظل نظرها معلقاً نحو سقف الغرفة وهي تردد بحالة هستيرية عبارة رح ينهدم السقف علينا".
السيدة "سلمى حلاق" عاشت الزلزال والهزات في مدينة حلب، تصف لنا حالتها النفسية بالقول :"أشعر أن الأرض فقدت جاذبيتها. أشعر أنني معلقة بالهواء، وأنني قد أسقط وأنا جالسة أو أمشي على الأرض. أشعر باختلال كل شيء حولي، وانقلاب كل الأفكار التي كانت لدينا طول عمرنا عن الأرض والوجود. أعيش بانتظار زلزال جديد، وهو بالضبط ما يعبر عنه المثل الشعبي : انتظار الموت أصعب من وقوعه".
العلاج النفسي للناجين من الزلزال
تقول "دينا الأحمد" وهي متخصصة صحة نفسية في أحد مراكز مدينة مرسين التركية لموقع تلفزيون سوريا: "نستقبل كل يوم نحو 10 عوائل فيها مشكلات نفسية لأفراد من كل الأعمار، الحالات النفسية التي استقبلناها كانت صعبة ومؤثرة جداً. الأطفال غير مستوعبين لما يحدث، كانوا يشعرون بخوف وهلع. كنت أرى ملامح الصدمة والذهول في عيونهم، وكأن الحياة توقفت عندهم تماماً. أول نصيحة نقدمها هي أن على الأهالي أن يمنعوا أطفالهم من كبت مشاعر الخوف، بالعكس، عليهم ترك أطفالهم يعبروا عما يجول بداخلهم، لأن كتم المشاعر يتحول لاضطرابات نفسية".
وعن طرق المساعدة للتخلص من آثار الصدمة يقول "باسل نمرة" وهو متخصص إرشاد نفسي مجتمعي، "إن طرق المساعدة تبدأ بما يسمى تفريغ الحدث الذهني للتخلص من المشاهد المؤلمة، إما بترك الشخص يقوم بكتابة تجربته الصعبة، أو بالاستماع إليه وهو يتحدث عنها، ولو تكلم لمدة طويلة. يجب أن يخرج الحدث بشكل كامل من ذهنه أثناء التكلم. ثم ننتقل إلى مرحلة الدعم النفسي، بتأمين الألعاب الجماعية للأطفال، ومساعدة الكبار على العودة لحياتهم الطبيعية، وخاصة العودة للعمل. وطبعاً هذا للحالات الخفيفة والمتوسطة، أما الحالات المرضية الخطيرة، فتحتاج لعلاج عند أطباء نفسيين وأطباء أمراض عصبية، وأحياناً لمشافي متخصصة واستخدام الدواء".
تحذير من ازدياد حالات الانتحار عقب الزلزال
منظمة "منسقو استجابة سوريا"، العاملة في شمال غربي سوريا، حذرت من ازدياد حالات الانتحار في أعقاب الزلزال، ومن التأثيرات النفسية للزلزال على السكان على المدى البعيد.
وحثت المنظمة في بيان لها المنظمات الإنسانية على تفعيل العيادات النفسية ضمن المراكز الطبية، ووضع أرقام خاصة للإبلاغ عن حالات انتحار محتملة "بغية التعامل معها بشكل عاجل، ومنع المجتمع من الانزلاق إلى مشكلات جديدة تضاف إلى قائمة طويلة يعاني منها السكان".
يذكر أن الزلازل المدمرة قتلت الشهر الماضي أكثر من 54000 شخص في تركيا وسوريا وتركت الملايين بلا مأوى.