تثير العملية الإسرائيلية المفتوحة ضد حزب الله اللبناني سلسلة من السيناريوهات والأسئلة حول تأثيرها على النظام السوري ومستقبل الوضع في سوريا وتحالفات الأسد القادمة، ورغم صعوبة التنبؤ في ظل سلسلة المفاجآت في المنطقة، فإن هذا المقال هو محاولة سريعة في التفكير في هذه السيناريوهات المحتملة في سوريا.
حزب الله والنظام السوري: تحالف وتداخل وافتراق
لعب حزب الله دوراً رئيساً في دعم وإسناد النظام السوري منذ عام 2012، لم يكن دور حزب الله في سوريا مقتصراً على المشاركة المباشرة في القتال، بل كان المشرف على قيادة وتدريب الميليشيات المدعومة إيرانياً في سوريا، وفي كثير من المعارك كان يستلم القيادة والتخطيط فوق جيش النظام.
ساهم حزب الله ضمن هذه المنظومة الواسعة من الميليشيات الأجنبية والمحلية وقوات النظام الرسمية في السيطرة على القصير والقلمون وامتدت مشاركته إلى جميع المحافظات السورية، مع مشاركته في الانتهاكات والجرائم المنهجية واسعة النطاق فيها، ولعدم المبالغة في قدرات الحزب العسكرية ينبغي القول إنه لم يتمكن حتى مع ترسانة النظام العسكرية وقائمة الميليشيات الإيرانية الطويلة معه من تحقيق انتصار عسكري ضد فصائل الثورة على مستوى الجغرافيا السورية، فقد بدأ تراجع النظام وحلفائه منذ بداية عام 2015 في درعا والغوطة وإدلب، ما دفع النظام وإيران لطلب التدخل الروسي الذي تمكّن من تغيير المعادلة العسكرية.
استمر وجود حزب الله حتى بعد انتهاء المعارك في هذه المناطق، حيث يمتلك شبكة إمداد عسكرية ومقار عسكرية ونقاط رباط، إضافة إلى تورطه في تجارة المخدرات عبر الحدود، ويمتد تأثير حزب الله داخل بنية النظام نفسه، حيث أشرف على تدريب وقيادة الميليشيات السورية المحلية المرتبطة بالنظام، مثل الدفاع الوطني ولواء القدس وغيرها، فضلا عن تداخل النقاط العسكرية والعمليات والمصالح الواسع الذي نشأ عبر سنوات الحرب مع نظام الأسد، فالحزب لم يؤسس قواعد عسكرية جديدة غالباً، وإنما ينشط داخل قواعد النظام العسكرية الرسمية، لذلك فقد أسس حزب الله كمشرف على الميليشيات المدعومة إيرانياً في سوريا شبكة عسكرية واقتصادية ولوجستية موازية للنظام ومتداخلة معه في الآن نفسه.
لا ينبغي المبالغة هنا في مدى التأثير الإيراني على النظام السوري، حيث تتبنى بعض الخطابات أن إيران وحزب الله مسيطران على النظام، بينما هناك حدود لهذه العلاقة ومدى النفوذ الإيراني، وعدم إغفال العامل الروسي الأهم في سوريا، ومحاولة النظام إعادة بناء سلطته الداخلية وعلاقاته الخارجية في مرحلة التطبيع العربي معه، حيث يحاول أكثر إثبات استقلاليته والتخلص من القيود الإيرانية أو قيود الصورة الإيرانية عنه.
تمثل حرب غزة ثم حرب لبنان المختبر الأكثر أهمية لحدود هذه العلاقة والنفوذ، وإمكانية الأسد اللعب بين هذه التحالفات وتبديلها.
تأثير تدخل الحزب في سوريا في انكشافه الأمني
كان لتدخل حزب الله في سوريا تأثير كبير في انكشافه الأمني، فضلاً عن تراجع ومحدودية التضامن العربي معه بسبب تورطه في إسناد النظام السوري ومشاركته في عمليات الحصار والتجويع والتهجير والمجازر.
على المستوى الأمني، فقد خرج الحزب من الغرف المغلقة نحو جبهات مفتوحة ممتدة على معظم الجغرافيا السورية، وتعامل خلال ذلك مع عشرات آلاف المقاتلين من الميليشيات الشيعية العراقية والأفغانية والباكستانية، الذين كان كثير منهم مجنّدين بسبب وضعهم الاقتصادي وليس الإخلاص العقائدي بالضرورة، ما جعل إمكانية الضبط الأمني لتسرب المعلومات حول الحزب شبه مستحيل، فضلا عن تعامل الحزب اليومي طوال السنوات مع مقاتلي النظام ومخابراته سيئة الصيت وسهلة الاختراق والفساد، إلى جانب المقاتلين الذين انشقوا عن قوات النظام بعد تعاملهم مع عناصر وقادة الحزب وانضموا إلى الجيش الحر، والذي كان يمتلك بدوره وسائل اختراق وتجسس في مواجهة قوات النظام وحلفائه، كان هذا التعامل الواسع واليومي مع آلاف المقاتلين والتحرك المكشوف على جغرافيا واسعة مورداً لسيل معلومات حول الحزب وتحركاته وصور وأسماء عناصره وقدراته العسكرية.
إضافة إلى أن انشغال الحزب في سوريا منذ عام 2012 عمّق من انشغاله عن تطوير مواجهته الأمنية ضد إسرائيل، ورغم أن الحزب دخل في وضع هدنة مع إسرائيل منذ عام 2006، ولكنه عمّق من وضع الهدنة هذه منذ عام 2012، حيث استنزف كوادره وقدراته في سوريا.
لا يمكن بالطبع استبعاد اختراق إسرائيلي كبير أو تسريب معلومات حصل مؤخراً، حيث يوحي الانكشاف الأمني الكامل بالوصول إلى قاعدة بيانات مركزية للحزب، وليس مجرد مراكمة معلومات عبر المصادر المفتوحة أو معلومات عناصر من الصفوف الدنيا، تنشط هنا نظريات مؤامرة - لا يمكن تأكيدها ولا نفيها - حول تقديم هذه المعلومات من قبل النظام السوري نفسه.
تداعيات ضربات حزب الله على الوضع العسكري في سوريا
بالنسبة للوضع العسكري للنظام السوري في مقابل الفصائل الثورية في الشمال السوري، فمنذ عام 2020 استقرت خرائط النفوذ في سوريا بسبب تفاهمات دولية، بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة بشكل رئيس، مضافاً إليهم إيران، وهذه التفاهمات لا يبدو أنها تغيّرت بتأثير حرب غزة أو لبنان، ولذلك فإن اغتيال حسن نصر الله وتداعي حزب الله في لبنان ليس له تأثير مباشر على هذه الخرائط، وربما ليس له تأثير سلبي على قدرة النظام على الدفاع عن مواقعه ضمن وضع ثبات خطوط الجبهات، كان حزب الله قوة قتالية وتدريبية فعالة في أوقات الاقتحامات والمعارك الكبرى، مسنوداً طبعاً بالطيران الحربي السوري والروسي وقائمة الميليشيات الرديفة، ولكنه لا يمثل قوة الرباط الرئيسة على خطوط الجبهات اليوم.
وفي الجانب الإسرائيلي، فإن هذه العلاقات المتشابكة بين الحزب والنظام السوري، ومشاركة ضباط من النظام في سلاسل التوريد والإمداد للحزب خلال السنوات السابقة، قد يهدد بامتداد عمليات الاغتيال الإسرائيلية إلى سوريا لاستهداف هؤلاء الضباط أو أي تحرك مرتبط بالحزب، وقد ضمّنت إسرائيل سوريا ضمن تهديداتها في تصريحاتها الأخيرة، لترهيب النظام وضباطه المرتبطين بالحزب من مساعدته بعد التداعي السريع لقياداته.
وفي جانب حزب الله، فإن الضربات التي يتعرض لها الحزب في لبنان، قد تدفع ما تبقى من قياداته إلى تنشيط شبكة الإمداد التابعة لهم في سوريا، فضلا عن إمكانية انسحاب عناصر الحزب من لبنان إلى سوريا وليس العكس، ولهذا تأثيره على إمكانية تصعيد إسرائيل في سوريا، ولكنه يضع عناصر الحزب وشبكته أكثر تحت تحكم النظام أو في مواجهته إن قررت الميليشيات العراقية المواجهة.
تتبع إسرائيل تكتيك الصدمات المتتالية والمتصاعدة منذ ضربة البيجر ثم تفجير اللاسلكي ثم اغتيال قادة قوة الرضوان وصولاً إلى اغتيال حسن نصر الله وعدد غير معروف من القادة العسكريين معه في 27 أيلول/ سبتمبر الحالي، تمنع هذه الصدمات الحزب من إمكانية ترميم الثقة والهيبة العسكرية والأمنية، أمام عناصره وحاضنته قبل إسرائيل، ما يسهم في شيوع الشعور بالعجز والانكشاف الأمني الكامل لدى القواعد، وفي وضع الصدمات وانهيار الثقة فإن الصفوف الدنيا تصبح مرجحة للانهيار والانسحاب، وهذا أحد أهداف سينمائية التصعيد الإسرائيلي وتتابعه بشكل متصاعد: منع الحزب من إمكانية ترميم الثقة ودفع الصفوف الدنيا نحو الانهيار والانسحاب.
حياد الأسد أمام إسرائيل والمأزق الإيراني
يضع هذا التطور علاقة الأسد بحزب الله وإيران في مأزق، فقد اختار الأسد الحياد منذ حرب غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبالأحرى منذ حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، ورغم خطاباته المعلّبة فإن نظام الأسد لم يمتلك عقيدة أو إرادة مواجهة ضد إسرائيل في أي وقت منذ عام 1973، فضلاً عن تطوير إمكانية لهذه المواجهة.
لا يمكن للأسد فتح جبهة ضد إسرائيل ولو أراد ذلك، فقواعد النظام العسكرية مستباحة ومكشوفة ومعروفة أمام إسرائيل، وليس لدى النظام - الذي استنزف نفسه طوال 13 سنة في مواجهة ثورة وفصائل شعبية ولم يتمكن من هزيمتها وحده - خبرة في مواجهة تفوق عسكري وتقني إسرائيلي هائل، فضلاً عن الفساد المستشري في بنيته الذي جعل عمليات الاختراق وبيع المعلومات سهلة حتى على مجموعات الثوار المحلية، فضلاً عن مخابرات الدول.
ورغم حصول عمليات إطلاق نيران وصواريخ محدودة في اتجاه الجولان المحتل منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فإن هذه العمليات لم تكن من صنع النظام ولا حزب الله والميليشيات المدعومة إيرانياً، وإنما كان المسؤول عنها مجموعات مسلحة خارج سيطرته وعلمه، ما دفعه إلى فرض تسوية ثانية في القنيطرة وعقد سلسلة اجتماعات بين ضباط الأمن والوجهاء والمجموعات الأهلية في المنطقة والتصعيد ضد عدة بلدات بقيت فيها مجموعات محلية معارضة لضبط الوضع الأمني ومنع تكرار هذه الحوادث.
جمع الأسد مع الحياد العسكري المتوقع، تخفيض حدة وكثافة خطابه الديبلوماسي والإعلامي في تأييد "المقاومة"، وتجنب تأييد حركة حماس أو نعي قادتها الذي اغتالتهم إسرائيل، ودفع هذا نحو تشكيك بانتمائه إلى "محور المقاومة" لدى حاضنة "المحور"، ما دفع إيران وحسن نصر الله إلى الدفاع عن حياد "الجبهة السورية" في خطاباتهم.
وليس من المتوقع أن تدفع الحملة الإسرائيلية في لبنان، وقتل صفوف القيادة لدى حليفه حزب الله، إلى تغيير وضع جبهة الجولان، حيث يعتبر الأسد أن ضمانه هدوء جبهة الجولان خلال عام من الحرب يؤهله أكثر للتطبيع العربي والغربي معه وإعادة تأهيله دولياً، وسيدفعه انهيار حزب الله إلى زيادة التأكيد على هذه الضمانة في مقابل جميع جبهات المحور الإيراني الأخرى.
كما أن الأسد يراهن على استقبال النازحين اللبنانيين في أن يكون بوابة أخرى لاستقبال دعم اقتصادي وتطبيع دولي معه وتفاوض حول رفع العقوبات عنه.
ولكن في المقابل، فإن إيران التي تذهب نحو انكفاء مهين بعد مقتل رئيسي ثم اغتيال هنية ثم تصفية حسن نصر الله وقيادة حزب الله، تجد نفسها في وضع حرج أكثر أمام حياد النظام وإمكانية استفادته من هذا الحياد في كسب تحالفات وعلاقات دولية خارج سياستها ومحورها، وفي الوقت نفسه فإن الأسد يمثل لها ضمانة للوجود الإيراني وميليشياتها في سوريا.
في هذه اللحظة الحاسمة من وجود المحور الإيراني، فإن الأسد في وضع أفضل للتخلص من القيود الإيرانية عليه، وفرض شروطه هو على إيران، وتحويل حياده في الحرب إلى مكتسبات اقتصادية وسياسية.
ولكن هذا المكسب للأسد وخضوع إيران للموقف الجديد مرهون أيضاً بعدم حصول تحول في الموقف الإيراني من النظام، أو انضباط الميليشيات العراقية واللبنانية المنتشرة في العاصمة دمشق، وقد يكون حصول فوضى في سوريا عبر إحداث قلاقل بين هذه الميليشيات والنظام السوري أحد السيناريوهات ضعيفة الاحتمال ولكنها ممكنة لخلط الأوراق وتضخيم حجم فوضى المنطقة التي يحدثها التصعيد الإسرائيلي في لبنان، حيث يمثل أي تهديد لاستقرار النظام مخاوف غربية من تسرب مخزونه العسكري أو موجات ضخمة من اللاجئين وحالة فوضى أخرى لا يمكن ضبطها، خاصة أن أي تهديد لسيطرة النظام سيكون إشارة خضراء للفصائل الثورية في الشمال السوري أو المجموعات المعادية للنظام داخل مناطق سيطرته لتقدّم سهل نحو دمشق.
ملامح مرحلة: تردد إيراني وتوحش إسرائيلي وغياب عربي
باغتيال حسن نصر الله والحملة العسكرية الشاملة على جنوب لبنان وطلب حل حزب الله، رفعت إسرائيل مستوى الرد الإيراني للعودة إلى معادلة الردع نحو مستوى الحرب المباشرة بين إيران وإسرائيل، وهو ما تظهر إيران حتى الآن عدم رغبة أو جرأة بالمضيّ نحوه.
وبعد تصفية نسبة ثقيلة من الصفوف القيادية الأولى في حزب الله ومخزونه العسكري، فإن الطريق أمام التدخل الإسرائيلي البري يبدو ممهّداً، ويمكن أن يتحول حزب الله اللبناني إلى نموذج "داعش" بعد تصفية قيادته من قبل التحالف الدولي: مجموعات متناثرة تتواصل بصعوبة مع قيادتها ويمكنها تنفيذ ضربات متفرقة دون تنظيم حرب مركزية.
تمثل الحرب الإسرائيلية الواسعة على جنوب لبنان بعد الإبادة الجماعية في غزة إقراراً دولياً بمرحلة توحش إسرائيلي بلا قيود في المنطقة، وغياباً آخر للفاعلية العربي. تحررت إسرائيل من الخطوط الحمراء أو التوازنات السابقة، ورفعت تهديدها -الواقعي- إلى إمكانية فعل أي شيء في أي مكان، كما يقول نتنياهو نفسه، فما الذي يمنعه من الذهاب نحو الضفة والأردن ومصر بشكل أو بآخر في مرحلة لاحقة ؟
كانت حركة حماس وحزب الله جزءاً من المعادلة السياسية في المنطقة، رغم تصنيف أجنحتهما العسكرية -وأحياناً السياسية- كمنظمات إرهابية لدى الدول، والانتقال إلى تصفيتهما بالكامل يفتح الباب لتصفية الفواعل ما دون الدولة في المنطقة، سواء من قبل إسرائيل أو غيرها، يبدو هذا التوجه الإسرائيلي منسجمّا مع حراك التطبيع العربي مع الأسد أيضاً، حيث ظهر خطاب التعامل مع "الدولة" وليس مع الفصائل أو الجماعات ما دون الدولة، وهو ما يضع أمام المعارضة السورية السياسية أو الجيش الوطني وهيئة تحرير الشام سؤالاً كبيراً لتقييم إمكانيات البقاء والفاعلية في أي مشهد قادم، سواء تمكن الأسد من كسب رهانه في الاستفادة من الوضع الحالي، أو حصلت مفاجآت لم يعد أي منها خيالياً أو مستبعداً بعد المفاجآت الكثيرة التي عاشتها المنطقة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 حتى 27 أيلول/ سبتمبر 2024.