ما من شك أن ما مُني به حزب الله في الأيام الأخيرة خلال المجابهات بينه وبين الكيان الصهيوني سيلقي بظلاله على المشهد العام في المنطقة عموماً، وعلى المشهد السوري بشكل خاص.
بل يمكن الذهاب إلى أن قتامة المشهد وفداحته الدموية في لبنان ستبقى المُوجِّه الرئيسي لتفكير قسم كبير من السوريين. ذلك أن ما حدث لا يجسّد معركة طارئة انتهت بخسارة حزب الله لعدد من قيادييه ورموزه العسكرية والسياسية والدينية فحسب، بل الأهم من ذلك هو أن مآلات هذه المعركة قد أشرعت بابًا واسعًا للتساؤلات حول مشروع حزب الله في لبنان والمنطقة، والذي كان يعمل عليه طيلة عقود. هل ما يزال هذا الحزب مُجسِّدًا لحائط الصدّ للمقاومة في مواجهة التغوّل الإسرائيلي؟ بل هل ما تزال قوة الحزب تجسّد - بالفعل - مصدر خوف أو قلق لإسرائيل؟ مثل هذه التساؤلات وغيرها الكثير يمكن أن تتمحور حول تساؤل ربما كان أكثر إلحاحاً من سواه: هل ما يزال حزب الله قادرًا على أن يكون الظهير الأقوى لنظام الأسد؟ وهل سيتأثر هذا الأخير بفقدانه لهذا الظهير أو ضعفه؟
لا يمكن اعتبار أن المواجهة الراهنة بين إسرائيل وحزب الله مقطوعة الصلة بالإرادات الدولية، وفي مقدمتها إيران التي وإن كانت قد اتخذت قراراً واضحاً منذ البداية بعدم مشاركتها الفعلية في الحرب.
المشروع الأم وروافده الإقليمية
قبل الإجابة على ما سلف من تساؤلات، لعله من المفيد التأكيد على أن حزب الله لم يكن يجسّد (حركة تحرر وطني) منبثقة من وعي عام أو إرادة جمعية لبنانية، بل ما هو شديد الوضوح أن تأسيسه كان بمبادرة خارجية (إيرانية)، واستناداً إلى إيديولوجية دينية هي ذاتها التي تتبناها الدولة الإيرانية. بل إن قيادة حزب الله لم تخف ولاءها المطلق لمنهج (ولاية الفقيه) فيما لو كان لها الخيار في تحديد إيديولوجيا الدولة. ولئن خاض الحزب المذكور مواجهات مع الوجود الصهيوني في الجنوب اللبناني أسفرت عن هزيمة القوات الإسرائيلية من الجنوب خلال عقد الثمانينيات، فإن مجمل حروبه اللاحقة كانت بإيعاز مباشر من إيران (حرب 2006 – 2008 – 2014) ولأسباب ذات صلة بالسياسات الإيرانية ومناكفاتها مع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
وربما لهذه الأسباب جميعها لا يمكن اعتبار أن المواجهة الراهنة بين إسرائيل وحزب الله مقطوعة الصلة بالإرادات الدولية، وفي مقدمتها إيران التي وإن كانت قد اتخذت قراراً واضحاً منذ البداية بعدم مشاركتها الفعلية في الحرب، إلّا أنها هي صاحبة القرار في أكثر من مسألة، لعل في طليعتها إمساكها بقرار استخدام حزب الله لترسانة الصواريخ التي زودته بها إيران، والتي لم تظهر كقوّة رادعة بيد حزب الله في الوقت الذي كان بأشد الحاجة إلى استخدامها. أضف إلى ذلك عدم استجابتها لنداءات حزب الله المتكررة ومطالبته بالتدخل بذريعة التزامها بنهج (الصبر الاستراتيجي)، ما يعني أن طهران كانت تعي جيداً سيرورة تلك الحرب وتتوقع مآلاتها.
ولكن في الوقت ذاته، هل كان هذا الانكفاء الإيراني عن نصرة حليفها الأقوى في لبنان نوعًا من النكث بالعهود أو التفريط بأهم أذرعها؟ أم كان ثمناً لصفقة مباغتة بينها وبين واشنطن أو تل أبيب؟ بالتأكيد المسألة ليست كذلك، بل ما هو أقرب للمنطق أن إيران دولة إقليمية تسعى إلى المزيد من التوسع والهيمنة، وذلك من خلال استراتيجية تعتمد على تعدد الأذرع التي عملت طهران وما تزال تعمل على تنميتها ودعمها في أكثر من دولة وعاصمة عربية. وينبغي أن يكون عمل جميع هذه الأذرع خادماً للمشروع المركزي الإيراني. فمن الطبيعي في هذه الحال أن تكون المصلحة المركزية لإيران هي المصلحة الأم، كما يقتضي هذا النهج من السياسات أن يكون نشاط الأذرع الفرعية – وحزب الله واحد منها – رافداً للمشروع الأم.
ووفقاً لذلك، فلا غرابة إن اقتضى الأمر أن تنكفىء طهران عن دعم أحد أذرعها إن كان هذا الانكفاء يلبي استجابة لمصلحة أكثر أهميةً. وما نعنيه بتلك المصلحة الأكثر أهمية هو تمسّك إيران وحرصها على عدم الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة مع إسرائيل ستوازيها بالضرورة مواجهة عسكرية مماثلة مع الولايات المتحدة.
وكذلك حرص طهران الشديد على استمرار المفاوضات حول ملفها النووي، تلك المفاوضات التي لا تتوقف تداعياتها عند الإقرار بحق إيران في امتلاك الطاقة النووية فحسب، بل يعني أيضاً الإقرار الأميركي ومن ثم الغربي بمصالح إيران الإقليمية في المنطقة.
وربما تكون الترجمة الحقيقية لهذا الأمر هي شرعنة البلطجة الإيرانية على دول المنطقة وفي مقدمتها دول الخليج العربي، فضلاً عن طموح إيران برفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها وفك القيود المضروبة على أرصدتها المالية في الخارج.
لقد دأب نظام الأسد على تطبيق مبدأ تجريف الحاضنة الشعبية للثورة من خلال انتهاج سياسة الحصار التي تنتهي بوضع السكان السوريين أمام خيارين: إما الموت تحت الحصار أو القبول بالتهجير.
هل سيكون الأسد أحد المستفيدين من الحرب الراهنة
ولئن كان مبدأ المفاضلة بين المصالح حافزًا لإيران للتضحية بمصلحة ذراعها الرئيسي في لبنان إيثاراً لمصلحة أكثر أهمية كما تراها، فهل يمكن أن يكون هذا المبدأ قابلاً للتطبيق ذاته في دمشق إن اقتضت الضرورة؟ لعله من العسير تقديم إجابة مختصرة في هذا السياق، ذلك أن إيران ليست الوحيدة التي تتحكم بمصير نظام الأسد كما تتحكّم بمصير حزب الله في لبنان، بل ثمة شريك لها في هذا الشأن، هو روسيا التي ترى أن ما تم تأسيسه في سوريا من مشاريع واستثمارات روسية هائلة مرتبط إلى حدّ بعيد بضرورة سلامة واستمرار النظام الحاكم. أضف إلى ذلك أن نظام الأسد، منذ انطلاقة عملية "طوفان الأقصى"، قد التزم بشدة بما عليه اتباعه، ولم يعد حاملاً من شعار الممانعة سوى صداه القديم فقط. وهو بهذا السلوك يريد إقناع إسرائيل بكل الوسائل بأن سلامة سلطته وبقاءه على رأس الحكم في سوريا هو الهدف الأسمى بالنسبة إليه، ودون ذلك فلتذهب جميع القضايا إلى الجحيم.
ولئن كان موقف وسلوك بشار الأسد حيال ما يجري في غزة ولبنان عاصماً لنظامه من أي عاصفة مباغتة في الوقت الراهن، فهل ستطال هذه العصمة عموم الوطن السوري أم ستنحصر ظلالها بحدود مصلحة الأسد فحسب؟ ربما كان قسم كبير من الجواب تختزله المعابر اللبنانية المكتظة بالنازحين الوافدين من الجنوب اللبناني، والذين تبدي حيالهم السلطة السورية كل أشكال الحفاوة والتسهيلات والترحيب، وذلك على خلاف النازحين السوريين في لبنان الذين تنتظرهم أفرع التحقيق وزنازين السجون. ومما لا شك فيه ستكون وجهة النازحين اللبنانيين صوب مجمل المناطق والبلدات التي احتلتها الميليشيات الطائفية، بل ما احتله حزب الله بعد أن طرد سكانها الأصليين.
لقد دأب نظام الأسد على تطبيق مبدأ تجريف الحاضنة الشعبية للثورة من خلال انتهاج سياسة الحصار التي تنتهي بوضع السكان السوريين أمام خيارين: إما الموت تحت الحصار أو القبول بالتهجير. ووفقاً لذلك، جرت جميع عمليات النزوح سواء بحق سكان الغوطة وبقية الريف الدمشقي أو القصير أو درعا أو حلب الشرقية، وذلك انسجاماً مع نظرية (التجانس) التي كان قد جهر بها رأس النظام أكثر من مرة، مؤكداً أن الأرض ليست لمن ولد فيها، بل لمن يدافع عنها. في إشارة واضحة إلى شرعنته لعملية طرد السكان السوريين المناوئين لحكمه من بلادهم، واستجلاب الميليشيات الطائفية من كل أصقاع الأرض ليكونوا حاضنة متجانسة تدافع عن السلطة.