على هامش ما يدور في أصقاع العالم باختلاف ما يعدّ منه مصيريّاً وما لا يعدّ، من حرب في غزة وتوحش إسرائيلي يخلق العالم تبريرات له في كل مرة، إلى أزمات اقتصادية ومجاعات في دول مختلفة وأوبئة مميتة في بقع جغرافية تناسى وجودها العالم، أو أزمات سياسية وحركات ثورية تعمل على دحر الاستبداد، يبدو الحديث عن التعددية في هذا العالم ضرباً من ضروب الخيال في ظل قمع متزايد للمختلفين مع السلطة في الرأي حتى في البلد الواحد.
لا يبدو _في ظل مثل هذه الإحداثيات_ موقف المعارضين السياسيين الذين يحلمون بخلق عالم يسود فيه الرفاه السياسي جيداً، فقد نالوا من القمع والتحييد أضعاف ما تناله الدول التي تُهمش وتُستباح على الأصعدة الدولية في مواجهة تغوّل دول أخرى ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً.
ففي الوقت الذي كانت روسيا تسعى إلى فرض هيمنتها العسكرية دولياً وفقا للتحليلات، كانت في حقيقة الأمر تشنّ حملة داخلية ممنهجة ضد من يعارضون سياساتها الحكومية، أو قد يشكلون تأثيراً شعبياً من شأنه أن يزعزع سيطرتها على السلطة.
منذ تولي بوتين السلطة أطلق يده على معارضيه، فسجن منهم من سجن ونفى آخرين، وقد تزايدت حملة القمع بشكل ملحوظ منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022.
ليست الاغتيالات السياسية التي اتبعتها روسيا سوى استعراض للقوة، ومحاولة لإثبات الوجود البوتيني المتفوق
اعتقد النظام الروسي _وربما أصاب_ بأنه باغتيال نافالني مؤخراً سوف يطوي صفحة باتت تزعجه وسينتهي بذلك من أحداث تقضّ مضجعه، وأن العالم والمجتمع الدولي سيكف عن الحديث في هذا الخصوص بعد فترة حتى وإن أبدى امتعاضاً ظاهراً على سبيل الاستعراض وتسجيل المواقف، ولا يهم ذلك فيما بعد، إن عرف العالم في باطنه أن حكومة بوتين تتبع نهجاً وحشياً ولا تتورع عن القتل في سبيل التخلص من خصومها.
ليست الاغتيالات السياسية التي اتبعتها روسيا سوى استعراضا للقوة، ومحاولة لإثبات الوجود البوتيني المتفوق لمعارض هو الأشهر اليوم من ضمن معارضيه، والأدهى أن بوتين لم يخشَ في ذلك الإشارة إليه بأصابع الاتهام، كما لم يعنِه وصفه بالمستبد من عدمه ولم يخجل من كونه مجرماً، بقدر ما حرص ويحرص على أن يطيح بمن يشكل خطراً عليه، كي يبث الخوف في نفس من تسوّل له نفسه الوقوف ضده ومعارضته على الصعيدين الداخلي أو الخارجي، والحقيقة أن السنوات العشرة الأخيرة أثبتت براعته في إنجاز المهام المشبوهة من هذا النوع.
أوكرانيا ليست مثالاً وحيداً إذن على تطبيق سياسة الأرض المحروقة التي استخدمها في إثبات انتصاره، فقد سبقتها شبه جزيرة القرم أو الشيشان وأفغانستان وفي النهاية أيضاً سوريا.
لكن هل بوتين وحده من يستخدم تلك السياسة؟ وهل هو الزعيم الوحيد الذي يطيح بمعارضيه ويحاول التخلص منهم لبسط سيطرته على الشعب الذي يحكمه، كي يستأثر بمقاليد السلطة في البلاد التي يحكمها؟
الحقيقة أننا بحكم أننا شعوب مُغيبة قد نعتقد أنه الأكثر شراسة في اتباع أساليب حكم قاسية، وربما يُخيّل إلينا أن أوروبا التي تتباكى على الضحايا من المعارضين في الشرق الأوسط والعالم العربي أكثر ديمقراطية من غيرها من البلاد، أو قد يسعدنا موقف الولايات المتحدة الأميركية التي طالبت بمحاسبة الرئيس الروسي على التجاوزات والإساءات التي ارتكبها بحق معارضيه، وقد نعتقد أنها تنزع إلى حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان وتتيح للمعارضين فضاء رحباً يستطيعون من خلاله ممارسة الحياة السياسية وإعلاء الصوت بالرفض أو بمعارضة السلطة.
لكن ذلك ليس سوى ضرباً من ضروب الخيال، إذ أن حكومات الدول الأوروبية التي تستمر بالجعجعة وإصدار التصريحات التي تنفع أن تكون عناوين رنانة للصحف فقط، ما زالت حتى اليوم تحاول قمع صوت المؤيدين للقضية الفلسطينية على سبيل المثال وتمارس معهم أساليب الدولة البوليسية لتحرمهم من حرية التعبير، ولا يعنيها في ذلك أنها تقمع الحقوق والحريات المصونة دستورياً، وأن الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي تعد نفسها ديمقراطية، لها اليد الطولى في أغلب الحروب المشتعلة في دول الشرق الأوسط، وإذا كانت تلك الدول تدعي سعيها إلى عالم سياسي متعدد الأقطاب فهذا لا يعني أن يكون متعدد الأصوات بل عليه أن يخضع بأقطابه جميعاً لسياساتها واستراتيجياتها، وإن لم يفعل فالحرب الإعلامية قادرة أن تطيح به باستخدام القانون الدولي لمساعدتها في ذلك.
لقد شهد العالم في الألفية الجديدة صراعات وحروب بينت أن موازين القوى ليست متكافئة، وأن مسألة العدالة أو حقوق الإنسان هي مسألة ثانوية تستخدمها الدول الأكثر قوة في الوقت الذي تراه مناسباً وفق ما تقتضي ظروفها أو تتطلب مصالحها، وفي هذا بات من المرجح أن أي صوت معارض للحكومة التي تعمل على بسط سيطرتها، هو صوت نشاز من شأنه أن يعطل عليها ترسيخ صوتها الخاص في عقول الشعوب، فالحياة السياسية الواقعية لا مساحة فيها للصراع الفكري بقدر ما وضحت فيها الغلبة للطرف القوي.
لم يعد الواقع السياسي يحتمل أصواتاً عدة تتجاذب الشرائح الاجتماعية وتشتتها، ولا مجال فيه بعد اليوم وفق قيم العالم الجديدة لاحتمال وجود أي صوت يدافع عن الحق ويعارض سياسة القمع، ولا يُسمح له أن يترك تأثيراً في مجموعة من الشعب، لأنه قد يؤدي إلى تشكل حالة ثورية فيما بعد وهو أمر لا وقت لدى السلطات للانشغال به، في زمن ما زالت تحاول فيه توجيه الشعوب وتعطيل حواسهم عن التفكير بشكل يخالف العقيدة العامة التي ترسخها.
الاستبداد يستمر في الانتشار والتمدد، فيمنح ذلك ابتسامة الانتصار الهازئة للحكام الذين يُولّون ظهورهم لرغبات وحقوق شعوبهم
ليس العالم العربي أفضل حالاً من الدول التي تدعي حماية الحقوق والحريات من دون أدنى شك، بل يبدو نسخة مشوهة مما تبقى من النظام العالمي الذي يفرض سياسة الصوت الواحد والحزب الواحد والفكر الواحد بشكل أو بآخر وهو أمر شهدناه في عصر الثورات العربية مؤخراً.
بالمحاولات الجاهدة التي اتبعتها الأنظمة للتخلص من مريدي التحول السياسي في العقد الأخير، تبدأ صورة العالم اليوم بالوضوح أكثر وينسحب ربما آخر بصيص أمل أمام التغوّل والقمع السلطوي الذي بدأت تتضح ملامحه، ويثبت ذلك أن الاستبداد يستمر في الانتشار والتمدد، فيمنح ذلك ابتسامة الانتصار الهازئة للحكام الذين يُولّون ظهورهم لرغبات وحقوق شعوبهم، ويصبح شكل النظام العالمي الأخير مسخاً مشوهاً من صوت نشاز لا يقبل إلا سماع نفسه.