يقلق عدد ليس قليلاً من السوريين اللاجئين إلى الدول الغربية على وجه الخصوص، من أن تُفتح لهم دفاتر ماضٍ كانوا فيه جزءاً من فصائل صارت تعدّ إرهابية.
على رأس القائمة يأتي تنظيم الدولة "داعش"، بطبيعة الحال، ثم جبهة النصرة ووليداتها، وحركة أحرار الشام، وجيش الإسلام، وصولاً إلى لواء التوحيد الذي كان يُنظر إليه كأحد الأجنحة المتدينة من الجيش الحر.
قد تؤدي هذه الانتماءات السابقة، مصحوبة بصور سُحبت من حساب فيسبوك سابق جرى إعدامه على عجل، إلى رفض ملف اللجوء أو تعليقه، وربما إلى قضاء سنوات في السجن، وفق قوانين كل بلد وتصنيفه الخاص للمنظمات الإرهابية. ومن أوروبا امتدت هذه النزعة إلى بعض دول الجوار السوري التي تحوي أعداداً كبيرة من اللاجئين من ذوي السيَر المغفَلة، وحتى إلى الشمال المحرّر الذي لم يألف الاهتمام بتهم الإرهاب، وما زال كثير من شبانه يختارون الفصيل الذي «سيشتغلون» معه بناءً على معايير القرابة والمنطقة والراتب ومدة الخدمة، لا التصنيف الخارجي.
لا يحمي القانون «المغفّلين» كما يقال. لكنه، على ما يبدو، لا يحمي أيضاً اللاهين والمتحمسين والمستهترين والمنجرفين مع الموجة.
يمكننا أن نعدّ العام 2012 تأسيسياً للرايات السوداء في سوريا. ففيه أُعلنت ولادة جبهة النصرة، ووصلت طلائع الجهاديين المهاجرين، ونُظِّم الدعم المالي الذي قدّمه سلفيون بناءً على رؤية دينية للصراع الذي كان يتبلور طائفياً باطراد، ونمت كتائب أحرار الشام التي ستتحول إلى «حركة» ذات مشروع في بداية العام التالي الذي سيشهد ولادة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) وصراعها مع النصرة، وكذلك ظهور مجموعات سلفية جهادية صغرى تجنبت الانحياز إلى إحدى الجماعتين الكبيرتين هاتين، مبدئياً على الأقل. وأخذت الفصائل المحلية للجيش الحر تفقد بريقها أمام المقاتلين القادمين من الخارج أو السائرين على نهجهم، ولاحقتها تهم العشوائية وضعف الأداء والارتباط بالخارج الغربي وضعف الالتزام الديني. مما حملها على تغيير أسمائها أو إلحاق وصف «الإسلامي» بها، وإدخال ما أمكن من «رايات التوحيد» إلى هويتها الشكلية وشعاراتها.
لا يحمي القانون «المغفّلين» كما يقال. لكنه، على ما يبدو، لا يحمي أيضاً اللاهين والمتحمسين والمستهترين والمنجرفين مع الموجة.
بدا الأمر كموجة عاصفة لا يمكن مقاومتها، تحت طائلة الاتهام بالعلمانية والديمقراطية ونهج «الصحوات»، وهو المصطلح القادم من العراق محمّلاً بتهم العمالة. وفي ظل هذا الجو التطهيري، ولا سيما على يد داعش، اغتيل قادة فصائل وناشطون أو خُطفوا واختفى أثرهم، وجرى استئصال قوى محلية كانت ملء السمع والبصر في مناطقها، وأُطلقت لحى طويلة وارتُديت عمامات سُود وعُصبت رؤوس بالراية ورُفعت أيادٍ بالشاهدة.
وكان ذلك سريعاً إلى درجة أنه لا يمكن أن يكون حقيقياً.
فحتى لدى داعش، ذروة سنام التشدد، لم تكن الدورات الشرعية تتجاوز الأسابيع. وفي حين أنها استقطبت عدداً محدوداً من ذوي «السابقة الجهادية» أو العلم الشرعي فإن أكثر المهاجرين إليها كانوا من «حديثي التوبة» الذين تسلّموا، على الرغم من ذلك، مهامَّ عسكرية وأمنية وإدارية بحكم حاجة الكيان المتمدد بسرعة إلى الكوادر. أما السوريون المبايعون لها فقد تولَّوا، في الغالب، مهامَّ تنفيذية دنيا اتّسمت بالاحتكاك المباشر بمجتمع الأهل، قمعاً وتفتيشاً على الحواجز، والتعالي عليه بالإحساس بوهم القوة، التي سرعان ما تبيّن أنها عارضة، والادّعاء بامتلاك المشروعية التأصيلية التي زُلزلت مع انهيار «الدولة».
ولم يكن درس داعش دون تأثير على شقيقاتها «في الساحة»، ولا سيما جبهة النصرة التي سلكت طريقاً متعرجاً حذراً لتصبح «هيئة تحرير الشام» صاحبة مشروع الدويلة المسالمة للغرب في إدلب، والتي أناطت بنفسها مهمة لجم المجموعات الجهادية الموجودة هناك عن أي عمليات خارجية.
ونزولاً عن قمة المنحنى أخذت اللحى تختفي أو تقصر، والبدلات الحديثة تستبدل باللباس الأفغاني، والفرق التطوعية بالمحاكم الشرعية، ومراكز الأبحاث بالمضافات. ورجع سوريون كثيرون عما بات يبدو لهم اليوم مغامرة جهادية.
تحتاج هذه المرحلة؛ وخاصة أسبابها وآثارها، إلى دراسات معمقة متأنية. غير أن ما تمكن ملاحظته الآن هو أنها لم تكن بالدرجة البالغة من الجدّيّة التي بدت عليها يوماً، ومن جهة أخرى أنه لا يمكن التقليل من حجم نتائجها على أرياف العرب السنّة السوريين الذين لم يصبحوا جهاديين صميميين أو «أشبال خلافة» لكن اللفحة السلفية الجهادية لم تمرّ عليهم من دون تغيير في هويتهم الدينية وممارساتها التي بات يصعب أن ترى فيها زوايا صوفية وازنة ومفتخِرة بعد أن كانت هي الغالبة بوضوح هناك، وتراجع نفوذ المشايخ التقليديين سليلي مزيج الأشعرية والمذهبية والطرقية.
ما زال الوقت مبكراً على استخلاص النتائج لأن المياه لم ترُق بعد، ولأن ما يظهر اليوم هو اضطراب هُويّة أكثر مما هو تشكّل واحدة جديدة. ولذلك لا تبدو اللّحى الطويلة، المتبقية لدى كثير من المقاتلين، أصيلة وهي ترقص في عرس أو تبحث عن الجنس عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو تتعاطى الكبتاغون. في حين تخفي أنها تبحث عن فرصة آمنة للهجرة إلى حيث يمكن لصاحبها أن يحوّلها إلى زينة شبابية جذابة، وينغمس في الملذات التي يتيحها المجتمع الغربي ويحفزها ضياع اللاجئ قبل أن توقظه من سكرته صورة قديمة له، مسلحاً وتحت راية سوداء.