بخلاف المرات الثلاث السابقة التي ألقى فيها «خطاب القسم» قرر بشار الأسد، وفريقه من النساء، إضفاء طابع إمبراطوري على الاحتفال الذي بدا، هذه المرة، وكأنه حفل تتويج.
كانت أولى معالم التغيير هي استدعاء أعضاء «مجلس الشعب» إلى مقر إقامة الرئيس «المنتخب» في «قصر الشعب» بدل الذهاب إليهم في مبناهم وفق المعتاد. أما ثانيها فكان عدم اقتصار الحضور عليهم بل خلطهم بمجموعة من «الشخصيات الوطنية» المتنوعة بشدة، مما منح بضع المئات الحاضرين صفة «البلاط». ووفق التوزيع الاسمي لأماكن جلوس المدعوين توسط المشهدَ نوابُه الثلاثة؛ الوجه الشمعي لنجاح العطار نائبته في الدولة، وسِمات الأزعر على هلال هلال الرجل الثاني في الحزب، ومعالم الانذهال التي تتقن أسماء الأخرس رسمها على وجهها، زوجته ونائبته في القصر، وربما أكثر.
وقد عزز اختيار المدعوين من الإيحاء بأن الحفل تنصيب ملكي، وهو الأمر الذي أراده له منظِّموه كما يبدو، دون أن ينجحوا في ذلك ضمن الظروف الفقيرة لسوريا الأسد إثر «الحرب» التي تركت آثارها في دعوة عدد من الجرحى بكراسي متحركة، وبعض من فقد بصره، فضلاً عن عدد كبير من الضباط من رتب مختلفة وقطاعات سلاح عديدة. ناهيك عن الوزراء والمسؤولين الحكوميين؛ ورجال الدين الإسلامي والمسيحي بطوائفهم المتنوعة؛ وإعلاميين وممثلين ومطربين شعبيين؛ وكتّاب وتجار وزعماء عشائر ومؤلف موسيقي؛ شيوخ وشبان؛ رجال ونساء. كمية كبيرة من ربطات العنق والنظارات الطبية؛ حجابات وعگالات وبضع كمامات وبرنيطة واحدة.
لم يبدُ الأسد منشغلاً بخصومه، هذه المرة، بقدر ما أراد أن يصفّي حسابه مع التيار الثالث من مواطنيه
في خطابه الطويل قال بشار الأسد كل ما يمكن أن يثير مللهم. فبدأ بالإنشاء المبتذل من نوع أن «قدر سوريا أن تمنح التاريخ ملاحم يقرأ صفحاتها كل من يريد أن يتزود بدروس الشرف والعزة والكرامة والحرية الحقيقية». ثم انتقل إلى وصف معارضيه بالعمالة، مشدداً على التمييز بين «الثورة والإرهاب»، وبين «الخيانة والوطنية»، وبين «إصلاح الداخل وتسليم الوطن للخارج».
ورغم ذلك لم يبدُ الأسد منشغلاً بخصومه، هذه المرة، بقدر ما أراد أن يصفّي حسابه مع التيار الثالث من مواطنيه. أولئك الذين قالوا إن ما جرى في البلاد «خلاف في الرأي»، ظانين أن في ذلك حكمة وأن في موقفهم حنكة. مؤكداً أن «لا مناطق رمادية»، فإما معه وإما ضده.
ولشرح الأسباب التي دفعت هذه الشريحة من الشعب إلى خيارهم الوسطي، فلم يكونوا الآن من الجالسين أمامه على الكراسي المتحركة؛ انزلق إلى التنظير كالعادة. فقال إن لدى هؤلاء خللاً في المسلّمات التي تتمثل في الأخلاق والعقائد والانتماء والقيم، يتوّجها الوطن. بعد أن أوضح أن المسلّمات بدائه متفق عليها بين أفراد الشعب، وأن البدائه هي البديهيات «باللغة المتداولة الشائعة»، هازّاً يده باستخفاف.
لم يكن هذا ما انتظره سكان سوريا الأسد، في الحقيقة، وهم يعيشون أزمة اقتصادية كارثية واختناقات في تأمين المواد الأساسية. لكن رئيسهم، «المنتصر إلا ربع» كما أوحى، لم ينشغل بذلك. وخصص من حديثه أقل الوقت لاستعراض رؤيته للحل، المتمثلة في رباعيةٍ هوامية حددها بزيادة الإنتاج واعتماد الطاقة البديلة والشفافية ومكافحة الفساد. ليعود إلى الإنشاء المريح، معتزاً بـ«العلاقة بيننا» كما قال لجمهوره، مؤكداً أنه يستمد من عيونهم «قبساً من ضياء ينير دربي».
انتهى الخطاب. خرج الأسد وزوجته من القاعة كمنتحلَي قصة نجاح زائفة. استلم الحاضرون «الهدايا التذكارية»، كما قال المذيع الذي حثهم على انتظارها بنبرة بعثية. غير أن أحداً من المتابعين لم يأخذ حقاً ولا باطلاً، مما دفع القناة الإخبارية السورية إلى استضافة لونا الشبل، المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية، للإيضاح.
في أثناء الخطاب كانت الشبل تسجل ملاحظات على دفتر صغير، وعند انتهائه كانت تصفق بحماس وانبهار كاذبين، لكنها حين دُعيت لتفسيره بدت كتارك الصلاة إذ جاءه الموت. فظهرت مرتبكة، تريد للقاء أن يمر بسرعة، تستعين على المقدور بأوراق أمامها.
قالت الشبل إن الأسد لم يعِد بشيء بل «قدّم رؤية». مبررة ذلك بأن من طبعه المباشرة بالعمل لا إزجاء الوعود، واتخاذ القرارات الصعبة لا ذات الشعبية. وأن على الناس أن لا ينتظروا القطاف الآن بل أن يبادروا إلى الزراعة. وأن الدعوة إلى إصلاحات سريعة قد تتقاطع مع «طروحات هدامة»، خاصة أن من تم التغرير بهم، حسب المستشارة، ليسوا فقط من حمل السلاح من «الإرهابيين» بل أيضاً من اكتفوا بالقول «الله يفرّج». من كان في الوسط «هم الأخطر»، لأن الوطنية لا تتجزأ و«المبدأ لا رمادية فيه»، مدافعة عن تقسيم «الأبيض والأسود». وعبثاً ذهبت محاولات المذيعَين للحصول على إجابة عن سؤال الشارع الموالي: «حسناً، لقد انتصرنا، ولكن كيف يُصرف هذا النصر؟».
جمهور مؤيديه الذين انتظروا الخطاب بلهفة، وجماعة «الله يفرّج» الصابرين على حكمه والذين التفت الآن للحفر في ضمائرهم؛ فيبدو أن أمامهم أياماً أصعب مما سبق
أضافت الشبل عدة قطع من الثلج إلى سطل الماء البارد الذي دلقه الأسد فوق رؤوس من حضروا للاحتفال به كشاهنشاه كاريكاتيري. لكنهم، على الأقل، من شريحة تستطيع الحصول على ماء دافئ للاستحمام متى شاءت. أما جمهور مؤيديه الذين انتظروا الخطاب بلهفة، وجماعة «الله يفرّج» الصابرين على حكمه والذين التفت الآن للحفر في ضمائرهم؛ فيبدو أن أمامهم أياماً أصعب مما سبق.
الدكتاتورية ليست فقط أن تقصف جبل الزاوية قبل أن تخرج لاستعراضك البائس، لكنها تبدأ عندما تستطيع التفوه بترهات في مواجهة استحقاقات كبرى ولا يملك بلاطك إلا التصفيق.