لم تعرف محافظة إدلب وما حولها شمال غربي سوريا الاستقرار خلال السنوات الماضية، بالرغم من انخفاض وتيرة العمليات العسكرية، وعدم تسجيل أي تغيير على خريطة السيطرة بين الأطراف المحلية والدولية، الثابتة منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 5 آذار 2020، بعد مواجهات ومعارك استمرت لنحو عام، قضمت من خلالها روسيا وقوات النظام السوري مساحات واسعة من أرياف إدلب وحلب وحماة.
تصاعدت وتيرة القصف من قبل النظام السوري وروسيا على منطقة شمال غربي سوريا منذ بداية شهر تشرين الأول الماضي، عبر الطائرات الحربية الروسية، وقذائف المدفعية والصواريخ، مخلّفة عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، بالتزامن مع تكثيف استخدام قوات النظام للصواريخ الموجهة في قصف سيارات المدنيين، والمزارعين بالقرب من خطوط التماس، ولا سيما في شرقي إدلب وغربي حلب.
في هذه الجولة من التصعيد، استخدمت روسيا والنظام ذرائع جديدة لتبرير القصف، بالرغم من أن التصعيد لا ينذر بحملات عسكرية موسعة أو تقدم بريّ، في حين تضبط فصائل المعارضة السورية إيقاع ردّها على القصف، ليقتصر على قصف مواقع وآليات للنظام، مع التلميح إلى وسائل جديدة غير معلنة للرد قادرة على تدمير وعطب طائرات ومروحيات حربية.
قصف لا يتوقف.. ذروته في تشرين الأول
في مطلع شهر تشرين الأول الماضي، بدأت قوات النظام السوري وروسيا حملة قصف صاروخية ومدفعية عنيفة على مدن وبلدات محافظة إدلب وريف حلب الغربي، ضمن سياق وصِف بـ "الانتقامي" على خلفية مزاعم النظام بوقوف فصائل من المعارضة وراء استهداف الكلية الحربية في حمص عبر الطائرات المسيرة.
وكان شهر تشرين الأوّل الفائت قاسياً على المدنيين في الشمال السوري، إذ ارتكبت فيه روسيا وقوات النظام السوري هجمات ومجازر بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها المحرّمة دولياً، ما أدّى إلى مقتل وجرح 336 مدنياً، معظمهم من النساء والأطفال، ونزوح مئات المدنيين إلى مخيّمات تفتقر للحد الأدنى من مقومات الحياة، خاصةً مع دخول فصل الشتاء وبدء موجة البرد القارس، وسط شحّ كبير في المساعدات الإنسانية.
ووثّق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، مقتل 66 مدنياً بينهم 23 طفلاً و13 امرأة، وإصابة أكثر من 270 آخرين بينهم 79 طفلاً و47 امرأة و3 متطوعين في الدفاع المدني، بغارات وقصف لـ قوات النظام وحليفته روسيا في شمال غربي سوريا، خلال شهر تشرين الأوّل الفائت.
استهدف قصف وغارات قوات النظام وروسيا، عشرات المرافق العامة ومنازل المدنيين في أكثر من 70 مدينة وبلدة شمال غربي سوريا، ومن بين تلك المرافق أكثر من 13 مدرسة، وأكثر من 7 مرافق طبية، و5 مساجد، و5 مخيمات و5 أسواق شعبية و4 مراكز للدفاع المدني السوري، بينها مركز لصحة النساء والأسرة، ومحطة كهرباء، و3 محطات مياه، و3 مزارع لتربية الدواجن.
ومنذ بداية عام 2023 حتى 19 تشرين الثاني الجاري استجابت فرق الدفاع المدني لـ 1129 هجوماً على مناطق شمال غربي سوريا، من قبل قوات النظام وروسيا وقوات موالية لهم، وانتشلت الفرق خلال هذه الهجمات جثامين 134 مدنياً بينهم 35 طفلاً و20 امرأة، وأنقذت وأسعفت الفرق 595 مدنياً بينهم 188 طفلاً و90 امرأة.
سياسة "نشر الرعب"
اعتمدت قوات النظام في هجماتها على الصواريخ الموجهة أيضاً، حيث استجابت فرق الدفاع المدني منذ بداية العام الحالي 2023 حتى يوم 25 من تشرين الثاني الجاري، لـ 17 هجوماً بالصواريخ الموجهة، تسببت بمقتل 5 مدنيين بينهم متطوع في الدفاع المدني السوري، وإصابة 16 مدنياً بينهم طفلان.
وقال الدفاع المدني إنّ استمرار قوات النظام باستهداف المدنيين المتعمد بالقذائف والصواريخ الموجهة هو جزء من سياسة نشر الرعب والقتل بين المدنيين، ويشكل خطراً كبيراً على السكان ويثبت أن نظام الأسد وروسيا مستمرون في حربهم على السوريين.
ويوم السبت الماضي، قصفت قوات النظام ورشة عمال في قطاف الزيتون بقذائف المدفعية في قرية قوقفين في ريف إدلب الجنوبي، ما أدى إلى مقتل 10 أشخاص بينهم 7 أطفال.
وعلى خلفية المجزرة، قال الائتلاف الوطني السوري، إنّ استهداف قوات النظام السوري لريف إدلب، وقتل مدنيين من عاملي وعاملات قطاف الزيتون وأطفالهم، "جريمة مروّعة تتطلب موقفاً دولياً حازماً يعزز مسارات المساءلة والمحاسبة الدولية لهذا النظام، على جرائم الحرب المستمرة التي يمارسها ضد الشعب السوري".
وطالب الائتلاف الوطني، الدول الضامنة لمسار أستانا بالالتزام بما وقع بينها من تفاهمات وبروتوكولات خاصة بوقف إطلاق النار ومنع أي أعمال عدائية تستهدف المدنيين والمنشآت العامة، بما يكفل ردع النظام السوري والميليشيات التي تسانده.
ذريعتان لتبرير القصف
استخدمت قوات النظام وروسيا عدة ذرائع خلال الشهرين الماضيين، لتبرير القصف والتصعيد على شمال غربي سوريا، الأولى تمثلت باتهام فصائل المعارضة السورية بالوقوف وراء الهجوم على الكلية الحربية في حمص خلال الشهر الماضي، والثانية تمثلت بقصف معامل لصنع طائرات مسيرة تستخدمها الفصائل في قصف مواقع للنظام.
وفي الآتي عيّنة من المزاعم الصادرة عن روسيا والنظام في سياق تبرير القصف:
- ذكر مدير الإدارة السياسية في جيش النظام السوري، حسن سليمان، في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس مركز التنسيق الروسي في دمشق والمنطقة الوسطى اللواء فاديم كوليت، أن الجانبين أطلقا سلسلة من "العمليات النوعية والضربات المركزة" شمالي سوريا استهدفت "التنظيمات التي ارتكبت الاعتداء على الكلية الحربية بحمص".
- قالت وزارة الدفاع الروسية إنها نفذت هجمات جوية على مستودع للسلاح والطائرات المسيرة وملجأين تحت الأرض في محافظة إدلب.
- ادعت وزارة الدفاع الروسية، تنفيذ غارات في محافظة إدلب ضد أهداف لـ"الجماعات المسلحة غير الشرعية" المشاركة في قصف مواقع قوات النظام السوري، ما أسفر عن تدمير ملاجئ ومعسكرات تدريب تابعة لجماعة "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام)، وقتل 34 مسلحاً وإصابة أكثر من 60 آخرين.
- ادّعت روسيا، تمكُّن قوات النظام السوري من "القضاء" على القائد الميداني لـ"هيئة تحرير الشام" سعيد يوسف الرحمن في قرية معيان بمحافظة إدلب، زاعمة أن الشخص المستهدف كان متورطاً بقصف القرداحة في محافظة اللاذقية.
- باتت وسائل الإعلام والصحف التابعة للنظام السوري تسرد هذه المزاعم بشكل يومي، في سياق تبرير القصف.
ما تعليق الفصائل؟
ذكر القيادي في فصائل المعارضة في إدلب، العقيد مصطفى بكور، أن حديث النظام عن قصف مصانع للطائرات المسيرة في إدلب، جاء بعد حادثة الكلية الحربية في حمص، وخاصة بعد صدور تقارير حول "تورط إيران والأجهزة الأمنية للنظام بهذا الهجوم في محاولة منه للإيحاء بأن القوى الثورية تمتلك مصانع للطيران المسير، وبالتالي من الطبيعي أن تكون الفصائل الثورية هي من قامت باستهداف الكلية الحربية من وجهة نظره لنفي التهمة عن إيران والأجهزة الأمنية".
وقال بكور في حديث مع موقع تلفزيون سوريا: "الطبيعي أن يحاول النظام إعطاء صورة بأن هجماته على إدلب تأتي في إطار الرد على هجمات الفصائل الثورية على مواقعه، وبالتالي يضغط بذلك على روسيا وتركيا الضامنتين لمسار أستانا، ويعطي فكرة للمجتمع الدولي بأنه يدافع عن نفسه وأن الطرف المعتدي هم الفصائل".
وبشأن إعلان "الفتح المبين" عن عطب وتدمير 4 طائرات للنظام خلال شهر تشرين الأول الماضي، والسلاح المستخدم، أضاف بكور: "في إطار عمليات الرد على عدوان النظام على الشمال السوري، قامت غرفة عمليات الفتح المبين باستهداف مواقع عديدة في عمق العدو بوسائط نارية مختلفة مما أدى إلى عطب عدد من الحوامات في مطار حلب، ولا يوجد تأكيد على استهداف هذه المواقع بواسطة طائرات مسيرة، لأن كل المواقع التي استُهدفت كانت ضمن المدى المجدي للمدفعية والصواريخ التي تمتلكها الفصائل".
ما المتوقع للتصعيد على إدلب؟
تشير التقديرات والوقائع الميدانية، إلى أن النظام السوري لا يعتزم شن أي عملية عسكرية واسعة النطاق باتجاه مناطق سيطرة المعارضة السورية في الوقت الحالي، خاصة أن قرار السلم والحرب خرج من يد الأطراف المحلية، وبات بيد الدول الضامنة لوقف إطلاق النار، ويقصد بها تركيا وروسيا، وإيران بدرجة أقل، وجميع هذه الأطراف يبدو أنها ليست بوارد التصعيد إلى حد العمليات العسكرية المباشرة على غرار ما جرى عام 2019.
سيناريو التصعيد الحالي، والذي يتوقع أن يستمر ما لم يشهد الميدان تطورات جديدة، يتمثل في سعي روسيا والنظام السوري لحرمان منطقة إدلب من أي استقرار، وهي سياسة أشارت إليها منظمة الدفاع المدني في وقت سابق، تتلخص بالحفاظ على حالة من اللاحرب واللاسلم.
وتهدف هذه السياسة إلى إرباك وإشغال الأطراف المحلية، واستنزاف قدرات الفصائل العسكرية، والقطاع الطبي، ومنع المدنيين من العودة إلى منازلهم في البلدات القريبة من خطوط التماس، وحرمانهم من الاستفادة من أراضيهم الزراعية أو جني المحاصيل.
وكان مقال للباحث عبد الوهاب عاصي، على موقع تلفزيون سوريا، قد خلص إلى أن هناك حدودا للتصعيد الكبير الذي تشهده منطقة إدلب وكذلك أهداف محدّدة للنظام وحلفائه، ولا يوجد ما يُشير إلى استعداد أي طرف للمضي قدماً فيه نتيجة الحسابات المعقّدة الراهنة داخل وخارج سوريا، مضيفاً أن الانزلاق إلى مواجهات عنيفة يبقى قائماً لأسباب تتعلّق بحجم الرد المتبادل على القصف ورغبة الأطراف في إلحاق أكبر ضرر ببعضهم، وتحيّن الفرصة لتغيير الوضع القائم؛ فالجميع ينظر لاتفاق التهدئة في المنطقة في حالة من عدم الرضا.
كذلك رأى المحلل العسكري والاستراتيجي العقيد عبد الجبار العكيدي، أن النظام السوري يقتات على الأعمال العسكرية ليشغل "حاضنته والمدنيين ضمن مناطق سيطرته عن مطالبهم المعيشية والخدمية والاقتصادية، ولتجنب تذمر الحاضنة التي بدأت تتململ من الواقع السيئ في مناطق سيطرة النظام"، مستبعداً إمكانية بدء النظام السوري لعملية عسكرية باتجاه محافظة إدلب في المدى القريب، لأنه مكبّل بالاتفاقيات الدولية، والأهم، أن الأمر ليس بيده، وليس له أي قرار ببدء عمل عسكري من عدمه.