حين قبل أوجلان أن يكون زعيماً لعصابة إجراميّة مسلّحة

2024.07.09 | 06:58 دمشق

244444444444444444445
+A
حجم الخط
-A

قبل 25 عامًا تقريبًا، وتحديدًا في الفترة الزمنية بين 31 مايو/ أيار و29 يونيو/ حزيران 1999، جرت محاكمة زعيم حزب العمال الكردستاني في جزيرة إيمرالي التركية.

انتهت المحاكمة بإصدار الحكم بالإعدام عليه طبقًا للمادة 125 من قانون العقوبات التركي، وإدانته بتشكيل تنظيم مسلّح والقيام بأعمال إرهابية ضد الدولة بهدف إقامة دولة أخرى عن طريق فصل جزء من الأراضي الخاضعة لسيادة الدولة التركية، ما يعني "الخيانة".

لاحقًا جرى تخفيف الحكم من الإعدام إلى السجن المؤبد مدى الحياة. هذه التفاصيل معروفة وشائعة ومتداولة. لكن بعد مرور ربع قرن، لم يقم أي من المثقفين الموالين لأوجلان وحزبه أو من معارضيه بإعادة فتح ملف تلك القضية أو الدعوى، ومحاولة تقليب أوراقها مجددًا بشيء من المراجعة والتدقيق والتحليل والنقد.

تفاصيل تلك المحاكمة و"سينها وجيمها" ما تزال مجهولة حتى بالنسبة لأنصار أوجلان وحزبه. الحزب الذي حتى لحظة كتابة ونشر هذه الأسطر لم ينشر ملفات محاكمة إيمرالي وتفاصيلها كاملةً دون اللعب بالحيثيات وتحوير أقوال أوجلان. جرى ذلك بالرغم من أن الحزب نفسه نشر ثلاثة من كتب أوجلان المهمة: "من دولة الرهبان السومرية نحو حضارة ديمقراطية"، "دفاعًا عن شعب"، و"مانيفستو الحضارة الديمقراطية".

هذه الكتب هي نسخ مكررة بعضها عن بعض، تضم تنظيرات طوباوية، يطرح فيها أوجلان وجهات نظره كحلول للقضية الكردية وقضايا الشرق الأوسط والعالم.

الكتب الثلاث، منهجيًّا، فيها كثير من العيوب والعلل، أقلها شأنًا غياب قوائم المصادر والمراجع التي اعتمدها أوجلان في تدوين مؤلفاته، وهي في الأصل مرافعات مقدمة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية.

أيا يكن من أمر، تلك الكتب الأوجلانية تخلو من تفاصيل محكمة إيمرالي، كجانب توثيقي شديد الأهمية والخطورة، يتعلق بإيفادات زعيم كردي نصبه حزبه "زعيمًا للشعب الكردي".

بمعنى أن الشعب الكردي لا يعلم شيئًا عما قاله "زعيمه" أمام المحكمة! والسؤال هنا: لماذا يحجب حزب العمال الكردستاني عن أنصاره ومؤيديه تفاصيل وحقائق ما قاله أوجلان في تلك المحاكمة، ولم ينشرها في كتاب كما نشر وترجم ووزع بقية كتب (مرافعات) أوجلان المذكورة آنفًا؟!

هذا السؤال يكتسب شرعيته ووجاهته، ليس فقط في نشر كتب أوجلان الأخيرة وصرف أموال طائلة على ترجمتها وطباعتها وتوزيعها في الشرق والغرب، بل إن الحزب نفسه، في مطلع الثمانينيات، نشر تفاصيل محاكمة القيادات المؤسسة للعمال الكردستاني في سجن دياربكر الرهيب: "مظلوم دوغان، خيري دورموش، كمال بير" في صحيفة الحزب المركزية (Serxwebun – سرخوبون - الاستقلال) وفي كتاب مستقل، ترجم إلى العربية أيضًا بعنوان "المقاومة حياة"! وجرى تسريب تفاصيل تلك المحاكمات عبر محامي أولئك المعتقلين؛ حسين يلدرم، في وقت كانت تركيا ترزح فيه تحت وطأة أجواء وامتدادات الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين في 12 سبتمبر/ أيلول 1980!

لا يتساءل أنصار العمال الكردستاني وعوائل الضحايا من المقاتلين والمقاتلات الكرد الذين فقدوا حياتهم ضمن الحزب وفي حروبه؛ لماذا لم يقدم أوجلان اعتذاره لهم أيضًا؟!

فضلاً عن ذلك، الكتلة الجماهيرية المؤيدة للعمال الكردستاني وزعيمه لا تعلم أي شيء، أو لم ينشر الحزب أي شيء توثيقي وتفصيلي عن التحقيق الذي أخضع له أوجلان من يوم 16 ولغاية يوم 21 فبراير/ شباط 1999 من قبل الأمن التركي فور جلبه إلى تركيا. ومما لا شك فيه أن محامي أوجلان اطلعوا على نص ذلك التحقيق كجزء من اطلاعهم على ملفات الدعوى والمحاكمة.

وعليه، تفاصيل التحقيق الأولي (16-21/2/1999) وتفاصيل الجلسات التسع للمحاكمة (31/5 – 29/6/1999) ما تزال مجهولة، لم يكشف الحزب عنها، باستثناء ما سرّبته الدولة التركية، سواء عبر الصحافة أو عبر كتب ألّفها ضباط حققوا مع أوجلان كالعقيد حسن آتيلا أوور، أو عبر تسجيلات فيديو جرى تسريبها في فترة الصراع بين جماعة فتح الله غولن، وحزب العدالة والتنمية وزعيمه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

الاعتذار

في الجلسة الأولى، وأمام هيئة المحكمة المؤلفة من القاضي تورغوت أوكياي (Turgut Okyay) رئيسًا، والقاضي حسين أكين (Hüseyin Eken) والقاضي العسكري؛ العقيد عبد القادر دافاجي أوغلو (Abdulkadir Davarcıoğlu)، وأمام المراقبين الأوروبيين والكاميرات، قدم أوجلان اعتذاره لعوائل الجنود الأتراك القتلى ووصفهم بـ"شهداء".

حتى هذه اللحظة، لا يتساءل أنصار العمال الكردستاني وعوائل الضحايا من المقاتلين والمقاتلات الكرد الذين فقدوا حياتهم ضمن الحزب وفي حروبه؛ لماذا لم يقدم أوجلان اعتذاره لهم أيضًا؟! لماذا تذكر فقط عوائل الجنود الأتراك وتناسى وتجاهل عوائل المقاتلين الأكراد، باعتبار الجميع ضحايا تلك الحرب التي خاضها الحزب ضد تركيا؟! هذا من جهة. من جهة أخرى؛ عندما يصف أوجلان الجنود الأتراك القتلى بأنهم شهداء، لا يتساءل عوائل ضحايا المقاتلين الكرد: وماذا عن أبنائنا وبناتنا؟ إذ لا يمكن أن يكون الضحايا من الطرفين شهداء! لا يمكن أن يكون القاتل والمقتول شهداء. فإذا كان الأول؛ الجندي التركي، شهيدًا، بحسب أوجلان، فهذا يعني بالضرورة أن المقاتلين ضمن الكردستاني، سواء الأحياء منهم أم الذين فقدوا حياتهم؛ هم "قتلة" و"إرهابيون"! ليس هذا فقط، عندما يصف أوجلان الجنود الأتراك القتلى بأنهم "شهداء" ويعتذر من عوائلهم، بينما يصف إعلام حزب العمال الكردستاني أولئك الجنود بـ"قتلى جنود الاحتلال التركي"، فهذا يعني أن أحد الطرفين على حق والآخر على باطل. فإذا كان الكردستاني في توصيفه على حق، هذا يعني أن أوجلان في توصيفه للجنود، على باطل. هذه الحال المتناقضة المسكوت عنها؛ تفضي بنا إلى سؤال آخر؛ هل يعقل أن يكون الزعيم على حق، وحزبه على باطل؟ أو لنعكس التساؤل: أيعقل أن يكون الحزب على حق وزعيمه على باطل؟ وبالتالي، أوقع أوجلان نفسه في معضلة أخلاقية، سياسية عويصة ومخزية، يتجاهلها الحزب وأنصاره، حتى هذه اللحظة، ويتهمّون كل من يطرح أسئلة كهذه بالخيانة والعمالة لتركيا.

زعيم عصابة مسلّحة

في الجلستين السابعة والثامنة من المحاكمة قدم محامو أوجلان دفاعاتهم، طالبوا فيها بعدم محاكمة موكلهم طبقًا للمادة 125 من قانون العقوبات التركي، بل وفق المادة 1-168 من قانون العقوبات المتعلقة بالندم وتخفيف العقوبة، على أن أوجلان "أسس عصابة مسلحة وترأسها". فالمادة 125 تشير، ولو بشكل غير مباشر، إلى أن أوجلان صاحب قضية، وأن جماعته هي تكتل (سياسي) مسلح يهدف إلى تشكيل دولة، بينما المادة 168 (جرى تعديلها لاحقًا) تشير بشكل مباشر إلى أن أوجلان ليس صاحب قضية، ولم يخض كفاحًا ونضالاً مسلحًا ضد تركيا، بل هو زعيم عصابة إجرامية مسلحة، وأبدى ندمه على أفعاله السابقة.

والحجة التي اعتمدها محامو أوجلان وقتذاك، في استنادهم إلى المادة 168 كانت أن موكلهم "لم يشارك في أي أعمال بشكل فيزيائي مباشر في القتال، بل أعطى تعليمات عامة عن بُعد، نتيجة طبيعة قيادته للمنظمة". وطالبوا بتخفيف الحكم على أوجلان عملاً بالمادة 59 من قانون العقوبات.

ما من شك فيه أن دفاع محاميي أوجلان وحججهم القانونية والمواد التي استندوا إليها، كلها، كانت بدراية موكلهم وقيادة الكردستاني في جبال قنديل، وبموافقتهم.

ويستحيل أن يجتهد المحامون في المطالبة بمحاكمته وفق المادة 168 بدلاً من المادة 125، دون علمهم وموافقتهم.

وبالتالي، أقر المحامون وموكلهم وحزب العمال، طبقًا لنص وحيثيات ذلك الدفاع، أن العمال الكردستاني هو "عصابة مسلحة" وليس حزبًا سياسيًّا صاحب قضية، وأنّ أوجلان هو زعيم عصابة إجرامية مسلحة.

لنفترض جدلاً أن أوجلان لم يكن على علم بذلك، فتلك مصيبة كبرى. وإذا كان على علم، فالمصيبة أكبر وأكبر. جرى ذلك دون أن يلتفت أحد من الكرد إلى خطورة الأمر. وهذا يعني في ما يعنيه أن الحزب وقيادته لم يكتفوا بإسقاط أوجلان من مقام الزعامة السياسية القومية والوطنية، ورفعه إلى مقام زعيم عصابة إجرامية مسلحة وحسب، بل ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا عناصر في تلك العصابة، ونفي صفة النضال القومي والوطني عن أنفسهم وعن زعيمهم!

عبد الله أوجلان، الذي نصَّبه حزبه "قائدًا للشعب الكردي"، فوق أنه لا يجيد الكتابة باللغة الكردية حتى هذه اللحظة، كي ينقذ نفسه من حبل المشنقة؛ تنازل هو نفسه عن مقام الزعامة السياسية النضالية.

الخيانة

اللافت والغريب والمثير للشبهة أن القضاء التركي الذي حكم على أوجلان وفق تلك المادة 125، وحكم عليه بالإعدام كخائن، ثم خفف الحكم إلى المؤبد، لكن الحكومات التركية المتعاقبة، العلمانية منها والإسلامية، لم تسع إلى إسقاط الجنسية التركية عن أوجلان وقيادات وعناصر حزبه! حتى هذه اللحظة هم مواطنون أتراك. بتعبير آخر؛ كيف تحاكمهم تركيا كخونة، ويبقى هؤلاء محافظين على جنسياتهم التركية؟!

حاصل القول

عبد الله أوجلان، الذي نصَّبه حزبه "قائدًا للشعب الكردي"، فوق أنه لا يجيد الكتابة باللغة الكردية حتى هذه اللحظة، كي ينقذ نفسه من حبل المشنقة؛ تنازل هو نفسه عن مقام الزعامة السياسية النضالية (بنص دفاع محاميه)، وارتضى أن تتم محاكمته كزعيم عصابة إجرامية مسلحة، بل أبدى ندمه على نشاطه السياسي.

كل ما سلف ذكره، وأكثر من ذلك، يجعل العمال الكردستاني لا ينشر تفاصيل محاكمة أوجلان، نظرًا لخطورة إفادات أوجلان وتنازلاته، والدلالات السياسية والأخلاقية للمواد القانونية التي استندت إليها هيئة الدفاع عن ما يسمى بـ"قائد الشعب الكردي"!