تكثر الأسئلة حول انخراط أكبر لحزب الله واحتمال توسع المعركة لتشمل جنوبي لبنان وسوريا، لكن حتى اللحظة لا أحد يمتلك جواباً، في حين يربط المتابعون الانخراط الأوسع في الحرب من على الحدود الجنوبية للبنان وسوريا بمدى الدخول الإسرائيلي البري إلى غزة، أو بمدى تحقيق أهداف عسكرية ضد حركة حماس، أو بالدفع القسري للتهجير المتعمد للفلسطينيين، وهذه هي نقطة الانطلاق التي يضعها حزب الله ولن يسمح بها.
وما بين التحليلات والتقديرات، والعمليات والتي توضع حتى اللحظة في إطار "قواعد الاشتباك"، يتلقى لبنان وسوريا تهديدات إسرائيلية وأميركية كثيرة عبر وسطاء إقليميين ودوليين حول تداعيات انخراط حزب الله في أي مواجهة محتملة، في حين لا يزال الحزب يحتفظ بسلاح الصمت والاكتفاء بضرب مواقع عسكرية ضمن الخط الأزرق، في الوقت الذي تستمر فيه التهديدات الإسرائيلية بتدمير لبنان وما تبقى من الدولة السورية.
وكان لافتاً إصرار الرئيس الأميركي جو بايدن على الحضور إلى إسرائيل في سابقة تاريخية لرئيس أميركي خلال حروب إسرائيل، إلا أنه يدرك تماماً رسالة نتنياهو والأحزاب الفاشية المتحالفة من خلال مجزرة المعمداني الدامية، هو يعلن ببساطة رفض الحلول والتسويات الجاري البحث فيها، والتي كانت ستُطرح في قمة عمّان التي جرى إلغاؤها، والتي كانت ترتكز على إضعاف البنية العسكرية لحركة حماس ما يعني سحب الورقة الفلسطينية من يد إيران، والذهاب لفتح مسار جديد في مشروع حل الدولتين.
أما نتنياهو وحلفاؤه من اليمين النازي فلديهم قناعات متباينة، تقوم على أساس طرد الفلسطينيين وتهجير ما تبقى منهم إلى مصر والأردن، وهذا تحديداً ما يترجمه الإعلان بعد تنفيذ المجزرة المروعة عن قول نتنياهو خلال لقائه بوحدة "غولاني" النخبوية في الجيش الإسرائيلي، أن المعركة في غزة ستجري بقوة كبيرة خلال الأيام المقبلة وأن الأمر سيأخذ منحى طويلاً زمنياً.
سعت إدارة بايدن ودبلوماسيته واستخباراته إلى تحضير أرضية خصبة لنجاح قمة عمان، حيث كان يعتقد أن وزير خارجيته قد أبرم اتفاقاً مع نتنياهو بطابع إنساني، ويمكن من خلاله الدخول المباغت لإنجاز ترتيبات التسوية التي تطمح لها الإدارة الديمقراطية المقبلة على انتخابات رئاسية، لذا جاء تحديد موعد الزيارة بعد اجتماع طويل لمدة 10 ساعات بين بلينكن وأعضاء الحكومة والأمن القومي والاستخبارات المركزية.
وتم تسريب أن طول مدة الاجتماع سببه انتزاع موافقة حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على ممرات آمنة لدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة وإنشاء مناطق آمنة للمدنيين لا يطاولها القصف، وهذا الموقف يتعارض مع طموح نتنياهو الشبق لفرض مشروع تطهير عرقي مع "ترانسفير" فلسطيني باتجاه مصر حالياً والأردن مستقبلاً، لتتبخر آمال أي محاولة دولية أو إقليمية لمشروع "حل الدولتين" التي تشترطها دول عدة مقابل التطبيع مع إسرائيل.
كل هذا الأداء هو ترجمة للرؤية السياسية لليمين الإسرائيلي بكافة أجنحته على الرفض المطلق لتحقيق خيار الدولتين. وكان واضحاً أن أبرز الهجمات السياسية الداخلية على نتنياهو بعد حصول العبور لغلاف غزة في 7 تشرين الأول ضمن معركة "طوفان الأقصى"، تحميله مسؤولية ما حصل نتيجة ما اعتُبر سياسةً متسامحة تجاه حماس، لاعتقاده أن المحافظة على التوازن القائم بين السلطة الفلسطينية في الضفة وحركة حماس في غزة سترسّخ كل العوائق القائمة أمام توحيد الفلسطينيين خلف مشروع "حل الدولتين"، واستند نتنياهو بهذا السرد السياسي مؤخراً وقبل أسابيع من الحرب إلى الصراع الحاصل بين فتح وحماس في مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان.
الثابت الأساسي في التهديدات المتبادلة بين إيران وحزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تدخل أحياناً في إطار الحرب النفسية وأحياناً أخرى في إطار التصعيد الإعلامي
هذا السياق بات يؤشر إلى إصرار نتنياهو على الذهاب إلى حملة برية نحو شمالي غزة مهما كانت الأثمان المتخيلة عنها، وترك التسويات السياسية والإنسانية للمرحلة اللاحقة، وما يزيد من هذا التصور عدمُ توقف الحكومة الإسرائيلية أمام موضوع الأسرى الذي لطالما شكل نقطة الضعف عند كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وهذا ما يعني أن المعركة البرية شمالي القطاع لن تتأخر كثيراً، وهو ما يستدعي إجراء تقييم ميداني لمسار الأمور على الجبهة اللبنانية أولاً والسورية ثانياً، وخاصة أن جبهة سوريا باتت مستنفرة من قبل الميليشيات الإيرانية وعناصر فرقة الرضوان.
والثابت الأساسي في التهديدات المتبادلة بين إيران وحزب الله من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، تدخل أحياناً في إطار الحرب النفسية وأحياناً أخرى في إطار التصعيد الإعلامي والسعي لخداع الطرف الآخر والتشويش على حساباته والتهويل عليه للتأثير على خياراته العسكرية. لكنها لا تخلو من الحقيقة في بعض الأحيان. وفي الوقت الذي تتمسك فيه إدارة بايدن ومعها كل الدول الغربية بعدم تمدد المعركة إلى لبنان، تبدو حسابات إسرائيل غير واضحة ويسودها الغموض. وهي قد تعتقد أن الظرف الدولي الحالي قد لا يأتي مرّة أخرى ما يدفعها للاستفادة منه حتى النهاية.
وحزب الله بكونه المسؤول العملي عن كل تحركات إيران الإقليمية، يوحي من خلال صمته بأنه يتعامل مع المعركة على أنها منازلة سياسية وليست عسكرية، لأنه يدرك أن الذهاب نحو حرب شاملة ليس بالأمر السهل هذه المرة، على اعتبار أن إسرائيل تستخدم أقصى درجات القوة التدميرية من دون أي رادع، ولبنان لا يقوى على تحمل خسائر كبيرة.
في حين أن النظام السوري لا يمكنه كسر اتفاقياته مع إسرائيل بإبقاء جبهة الجولان نائمة، وهو يستفيد من كل هذه الحرب لضرب إدلب وريف حلب في ظل الانشغال العالمي بغزة، كذلك فإن الأسد إذا ما بادرت إيران لأخذه لحرب لا قدرة له على التهرب منها، سيخسر المنح المالية المقدمة له من أبوظبي بكونها أولى الدول التي حذرته من الانخراط فيها، كذلك فإن الأسد لن يكون حزيناً بإنهاء حماس على اعتبار أن ثأره معها لم ينته حتى اللحظة، إضافة إلى أن الأسد وصلته رسائل تحذيرية إسرائيلية بالجملة، وصلت إحداها بقصف مطاري حلب ودمشق.
وهذا هو ما يبقي الوضع عند الحدود اللبنانية والسورية في إطار التوترات لا الحرب المفتوحة. لكن يبرز سؤال لافت اليوم مفاده: هل ستسعى إسرائيل للتفرغ لحزب الله عسكريًّا بعد نجاحها في الوصول إلى أنفاق غزة وتصفية قيادات حماس؟ ولا شك أنّ هذا السؤال موجود في حسابات الحزب وإيران، أو على الأقل هذا ما تستنتجه الوساطتان العمانية والقطرية بين واشنطن وطهران.
وثمة اعتقاد أن إسرائيل على الرغم من انشغالها بالحرب، تابعت بأهمية زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى العواصم العربية والمواقف التي أطلقها. وهي تعتقد أن حزب الله وإيران يحبذان دائماً الحفاظ على القوة العسكرية للحزب وحمايتها، في إطار موازين الردع ووفق نظرية أن التلويح بالسلاح يمكن كسب النقاط منه ألف مرة، أما استخدام القوة فيحصل لمرة واحدة فقط.
الخيار اللبناني والسوري لحزب الله في توسيع الساحات تمظهر من خلال تبني قوى سياسية ممانعة لعمليات تشنها من جنوبي لبنان وسوريا
في حين يستخدم الحزب تكتيكات مباغتة، في محاولة لتنويع الساحات، عبر إدخال فصائل وميليشيات في معركة طوفان الأقصى، من خلال ضرب أهداف ومواقع أميركية في العراق وهذا ما تبدّى في إعلان فصيل حزب الله العراقي هذه العملية في أربيل، أو الهجمات الحوثية في البحر والتي استهدفت ناقلة أميركية، وهذا دخول هدفه إعلامي بحت، يحمل إشارات واضحة تحديث قواعد جديدة للاشتباك، بشكل لا يبقى محصوراً في قطاع غزة وجنوبي لبنان، أو لا تعود فيه الجبهة اللبنانية هي الانعكاس الأول لمحاولة إسرائيل بدءَ الاجتياح البري لغزة. وكل هذا من شأنه أن يوحي بأن المعركة أوسع من مجرد جبهتين لإسرائيل، شمالاً مع لبنان وسوريا وجنوباً مع غزة.
والخيار اللبناني والسوري لحزب الله في توسيع الساحات تمظهر من خلال تبني قوى سياسية ممانعة لعمليات تشنها من جنوبي لبنان وسوريا. وهذه الاستراتيجية بات يعتمدها حزب الله للإيحاء بأنه الوحيد في لبنان الذي يقود الصراع عبر دخول أحزاب لبنانية سنية إلى المشروع مؤخراً الجماعة الإسلامية كفصيل سني، وكذلك بالنسبة إلى إعلان كتائب القسام وسرايا القدس، لضربات عبر لبنان حالياً ومن جنوبي سوريا مستقبلاً وبالتالي يسعى حزب الله لإظهار تنوعات طائفية ووطنية في المعركة وأنها في إطار تنسيق سني – شيعي لتجاوز الخلافات، بالمقابل قد يسعى الحزب لجذب عوامل أخرى عبر قوى كالحزب الشيوعي والقومي لإضفاء صورة أوسع على المحور وقدراته.