في مدينة مرسين جنوبي تركيا على البحر الأبيض المتوسط، حي اسمه "حارة اللوادقة"، نسبة إلى سكانه، و"اللوادقة" هم أبناء مدينة اللاذقية السورية المغرقة في القدم. فمتى ولماذا جاء أبناء اللاذقية إلى مرسين؟
مع أن اللاذقية تقع على الضفة الشرقية للبحر المتوسط، ومرسين على الضفة الشمالية له، إلا أن المدينتين متقابلتان، وقريبتان إلى بعضهما، تبعدان عن بعضهما 100 ميل بحري (170 كلم) فقط، أما الطريق البري بينهما فهو أطول لأنه يشكل زاوية قائمة، ومع ذلك فهو لا يزيد على 370 كلم.
الطريق إلى مرسين بالسفن الشراعية وعبر حلب
قُربُ مرسين، والشبه الكبير بينها وبين اللاذقية في الطقس والطبيعة والبيئة الاجتماعية، جعلها مقصداً لأبناء اللاذقية الهاربين من الحروب والتجنيد والاضطهاد والأزمات الاقتصادية، أو الراغبين بكل بساطة في التغيير والبحث عن حياة جديدة.
وظاهرة اختيار اللاجئين والمهاجرين للمدينة الأقرب والأكثر شبهاً بمدينتهم الأصلية لا تقتصر على اللاذقية ومرسين الساحليتين، فأهل حلب يفضلون مدينة غازي عنتاب التركية الداخلية التي تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن حلب، وللأسباب نفسها يفضل أهل محافظة الرقة مدينة أورفا التركية شبه الصحراوية، بينما يفضل أهالي محافظة الحسكة مدينة ماردين، ويفضل أهل محافظة إدلب مدينتي أنطاكية والريحانية التركيتين الجبليتين.
تقول السيدة سهيلة صهيوني البالغة من العمر ثمانين عاما لموقع تلفزيون سوريا: "انتقلت من اللاذقية إلى مرسين في ستينيات القرن الماضي بسبب الزواج، وكان هناك طريقان متاحان للانتقال من اللاذقية إلى مرسين، إما عبر السفن الشراعية، أو السفر إلى حلب براً ومنها نركب القطار الذي يوصل حلب بمرسين. وكان حي اللوادقة موجوداً، وبهذا الاسم، ويضم لوادقة من كل الطبقات والفئات".
مرسين وهجرة "السفر برلك"
أول هجرة من اللاذقية إلى مرسين حصلت مطلع القرن الماضي، وتحديداً عام 1903، تلتها هجرة أيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918) أو ما يعرف بـ "السفر برلك"، والتي أدت لاحقاً (عام 1920) إلى تبعية المدينتين إلى دولتين مختلفتين (تركيا وسوريا) بعد أن بقيتا تابعتين لدولة واحدة (الدولة العثمانية) لأكثر من 400 سنة.
سكن "اللوادقة" المهاجرون إلى مرسين قرب بعضهم، وشكلوا "حارة اللوادقة" قبل أكثر من 120 عاماً، وظلوا يستقبلون منذ ذلك الوقت كل "لاذقي" وكل سوري يرغب في العيش بمرسين.
"أبو علي"، (طلب عدم ذكر اسمه كاملاً) الذي ينحدر من مدينة اللاذقية ويقطن في هذا الحي منذ الثمانينيات يقول لموقع تلفزيون سوريا : "تحمل هذه الحارة اسم حارة اللوادقة منذ أكثر من مئة عام، والسبب في تسميتها يعود إلى أن عدة عائلات، يقدر عددهم بنحو 50 عائلة، منها عوائل البيطار والسلواية وحضرة والمصري والمطرجي والصهيوني والصباغ وقويقة وغيرها، هاجروا من اللاذقية وجوارها وتجمعوا في هذا الحي".
ويضيف "أبو علي": "اختار الوافدون الأوائل مكاناً لإقامة الحي بين أشجار الحمضيات وفي موقع مطل على البحر وقريب من ميناء مرسين. سموه حارة اللوادقة وسماه الأتراك حي "كرميت هانه" أو "لازكية جاداسه". أول ما بنوه في مرسين مسجد من الخشب عرف باسم "جامع تهتاليه"، والذي يعني جامع الخشب، كمركز للعبادة ونقطة لتلاقي الأهالي، وبجانبه بنوا حماماً يحمل اسم عائلة حضرة".
جامع الخشب وحمام الحضرة
المهندس محمد حضرة، حفيد باني الحمام "اللاذقاني" في مرسين وابن إمام المسجد أكد لنا "أن بناء الحمام كان عام 1903، وأن المسجد سمي "جامع العونية" نسبة إلى حي العونية في مدينة اللاذقية، وأن الأتراك سموه جامع الخشب، لأنه مبني من الخشب كلياً، جدي بنى الحمام وقتئذ وكان تاجر أخشاب بين مصر واللاذقية ومرسين".
وأضاف أن جده كتب على حجر الحمام عبارة "الرزق على الله" باعتبار أن اللغة العربية كان مستخدمة في الكتابة حينئذ.
وعن شكل الحي ونمطه المعماري سألنا اللاذقاني المرسيني أبا أحمد مطرجي فقال: "يتميز الحي بأزقته الضيقة والبيوت الصغيرة ذات السقف القرميدي المائل، الذي يطل مباشرة على البحر. معظم العائلات القادمة من اللاذقية حرصت على شراء قطع أرض وبناء بيوتها الصغيرة، بجانب بعضها".
وتعامل أبناء اللاذقية مع مرسين على أنها ملاذ آمن فقط، وليس قاعدة للنشاط الحزبي أو السياسي، ويضيف أبو أحمد المطرجي: "لم يشكل اللوادقة في مرسين أي تجمع رسمي لهم، كانت اجتماعاتهم اليومية تحدث في مقهى صغير يطل على البحر يدعى بقهوة اللوادقة وكانوا يلتقون في الجامع في المناسبات الدينية والاجتماعية".
وعن المهن التي يمارسها "لوادقة" مرسين قال الحاج سليم اللاذقاني المقيم في مرسين منذ 60 عاماً لموقع تلفزيون سوريا: "العائلات التي جاءت من اللاذقية إلى مرسين عملت في صيد الأسماك وصناعة الشباك والفلوكات (قوارب الصيد) وبعضها عمل في الزراعة وخاصة الحمضيات، إضافة إلى مهن النجارة والحدادة والخياطة، وبعضهم عمل في التجارة".
وكانت أعداد الوافدين من اللاذقية إلى مرسين قليلة وهجراتهم فردية، بما في ذلك هجرة السفر برلك (1914-1918) والهجرة الناجمة عن أحداث الثمانينيات في سوريا (1979-1981)، حتى كان عام 2011 وما تبعه من قمع وحشي للتظاهرات المعارضة للنظام السوري، والاعتداءات الدموية المروعة على أهالي الساحل السوري، فتوجه عشرات الألوف من أهالي اللاذقية والساحل السوري إلى مدينة مرسين، وتحديداً إلى "حارة اللوادقة"، التي أصبحت أصغر بكثير من أن تستوعب هذا الطوفان البشري الكبير، فصار اللوادقة والسوريون يعيشون في كل أحياء مرسين، لا بل وفي ضواحيها أيضاً.