يسير في شوارع مدينة مرسين الساحلية الجميلة، وينظر بحسرة إلى النخيل الذي يزين حدائقها وشوارعها، تغلي في رأسه فكرة واحدة: "النخيل من أجمل الأشجار، وهو زينة رائعة، لكنه يمكن أن يكون بنفس الوقت شجراً مثمراً تطرح الشجرة الواحدة منه مئات الكيلوغرامات من التمر، يمكن أن تطعم المارة، أو المحتاجين، أو تباع بآلاف الدولارات".
إنه مازن عران الراوي، أبو أنس، عاشق النخيل، الذي ترك في سوريا آلاف أشجار النخيل التي زرعها بيديه في مدينة البوكمال بريف دير الزور الملاصقة لحدود العراق، قبل أن يضطر للهجرة القسرية إلى جنوبي تركيا، وهو يتحرق للعودة إلى نخله الذي وضعت يدها عليه ميليشيات إيرانية.
مغامرة كادت أن تنتهي بمأساة
تحسر مازن الراوي على رؤية أشجار النخيل في شوارع مرسين، عقيمة، نحيلة، بلا ثمار، مما دفعه مرة للقيام بمغامرة كادت تودي بحياته.
يقول الراوي لموقع تلفزيون سوريا: "النخيل مثل البشر، فيه ذكور، وفيه إناث، وليثمر، يجب وضع الذكور بجوار الإناث، أو القيام بعملية تلقيح. وأشجار النخيل التي في شوارع مرسين غير مثمرة لأنها كلها من جنس واحد، ولا أحد يقوم بعملية التلقيح، ويتم قطع سعفاتها بشكل جائر لتصبح أطول، لأغراض الزينة، وهذا أمر يوجع قلب زارع النخيل، كلما مررت هنا، أنظر بحسرة. ومرة لم أتمالك نفسي، وحاولت الصعود لأعلى نخلة، لأقوم بما يقوم به زارع النخيل، وعلى ارتفاع 4 أمتار سقطت على الأرض، ولولا لطف الله بي، وسقوطي واقفاً على قدمي، لكنت فقدت حياتي".
تجربة ناجحة
ويقول الرواي لموقع تلفزيون سوريا إنه بعد بحث طويل في شوارع مرسين وجد نخلا ذكرا واستخرج منه غبار الطلع ولقح به نخلة أنثى، مؤكدا أن العملية نجحت وأنتجت النخلة 200 كغ من التمر، لكنه لم يستطع طرح فكرته للجهات المعنية في المدينة.
ويتابع "راقبت الشجرة بشكل مستمر وكنت دائم الجلوس تحتها حتى أتت ثمارها.. وقد اعتاد الناس رؤيتي واستغربوا جلوسي المتواصل تحتها..".
ويضيف أبو أنس: "جنوب تركيا، وتحديداً منطقة مرسين، طقسها حار ورطب، وهو طقس مناسب لزراعة أنواع ممتازة من النخيل، وبالتالي يمكن أن تثمر هذه الشجرات المزروعة في شوارع وحدائق مرسين، الشجرة الواحدة يمكن أن تعطي ربع طن من التمر سنوياً، ثمن الكيلو الواحد 10 دولارات، أي أن الشجرة الواحدة يمكن أن تعطي في السنة ما قيمته 2500 دولار، إذا زرعت بطريقة معينة (وضع شجرة ذكر بجانب شجرة أنثى) أو تم تلقيحها، وإذا توقفت عمليات قطع السعف بطريقة جائرة، وتركت الشجرة تصبح أثخن، خاصة في قواعدها، لتحمل وزن الثمار، وتحمل طول النخلة، ولتسهيل صعود المزارع إلى أعلى الشجرة".
بين واحات النخيل في سوريا والعراق
النخيل، هو كل حياة مازن عران، فهو ولد في البوكمال في شرقي سوريا، وهي واحة نخيل، تشكل مع الواحات المقابلة لها في العراق، حيث يجري نهر الفرات في قلب الصحراء، أفضل منطقة في العالم لزراعة النخيل، وفق تصنيف الجامعة العربية.
ولد مازن الرواي في بيت وبيئة تعتبر النخيل جزءاً غالياً من حياتها، لدرجة أنه عندما يولد طفل تزرع نخله له، تحمل اسمه، ويكون عمرها من عمره. ففي بيت أسرة مازن شجرة عمرها 52 سنة، تحمل اسمه، وهي موجودة حتى الآن، وبجوارها نخلة عمرها 65 لفرد آخر من الأسرة.
ذهب الراوي إلى العراق عام 2002 لتأسيس مشروع كبير لتعقيم وتعليب التمور، لكن الغزو الأميركي للعراق 2003 وما تلاه من تدهور كبير في الوضع الأمني، أوقف المشروع، فعاد لسوريا وأسس عام 2006 مشروعاً رائدا جمع فيه 8آلاف شتلة نخيل، تسقى بأدوات حديثة، وأساليب حديثة (التنقيط) ومواصفات عالمية، واستغلال أمثل للأرض (مثل زراعة العنب في ظلال النخيل).
وفي عام 2009 اكتشف في المزرعة بئر نفط، فبدأ تدخل النظام السوري في المشروع. وبعد الثورة عام 2011 تردى الإنتاج بسبب قطع الكهرباء، وقطع طرق رئيسية لتصريف الإنتاج بين المحافظات وخاصة دمشق، ومصادرة النظام لسيارتي تمر. ثم سيطر تنظيم "داعش" على المنطقة وتحول تردي الإنتاج إلى خسائر فادحة، ثم استولت الميليشيات الإيرانية على كامل المنطقة، وماتزال تسيطرة على مزرعة الراوي وتستغلها حتى الآن، كما يقول.
زراعة ورعاية النخيل، هي هاجس أبو أنس، ولذلك تراه يسهب في الحديث عن النخيل، ويقدم لك معلومات غزيرة عنه، حتى من دون أن تسأله يقول لموقع تلفزيون سوريا: "شتلة النخيل تحتاج من 3 إلى 5 سنوات لتثمر، وتصل إلى قمة إنتاجها بعمر 10 سنين. النخل يعمر حتى 100 سنة وأكثر. وطول النخلة يصل إلى 15 مترا، وإنتاجها يصل إلى 900 كيلوغرام من التمر في السنة. 4 آلاف نخلة تعطي ربحاً يصل مليون دولار سنوياً".
ويواصل دون توقف: "النخل أنواع: المجدول، والخستة، والزهدي، والسيف، والخلاص، والبرحي. المجدول أصله من فلسطين، وهو الأغلى في العالم. الخستة جيد لمونة البيت والاستخدام المنزلي، أما الزهدي (70٪ من نخل العراق زهدي) فهو عالي السكر وجيد لإنتاج المشتقات، يستخرج منه الكحول والدبس، وهو مناسب للزراعة في مرسين لأنه يحتاج بيئة حارة ورطبة..".