تساؤلات شخصية عن مرهج الجرماني

2024.08.19 | 06:14 دمشق

الجرماني
+A
حجم الخط
-A

مثل كثيرين من خارج السويداء، ممن تحمسوا لحراكها الذي أتم عامه الأول مؤخراً، لم أكن أعرف مرهج الجرماني قبل أن تنقل الكاميرات كلماته الواضحة ونبرته القوية من ساحة الكرامة التي اتخذها المعارضون مركزاً لنشاطهم في وسط المدينة.

بالنسبة لي «تعرّفت» إلى أبي غيث في أيلول 2023، بعد انطلاق الحراك بشهر، يوم انطلق بعض المحتجين إلى فرع حزب البعث لإعادة إغلاقه بعدما حاول بعض المسؤولين فيه تشغيله من جديد بعد أن عطّله الحراك رفضاً لدوره.

يومها أطلق حرس الفرع النار على من اقتربوا من تمثال حافظ الأسد ليكسروه. وكان بينهم مرهج الذي عاد إلى الساحة غاضباً، عاري الجذع وفي جسده أثر جرح طازج خفيف. ولأنه قائد «لواء جبل الكرامة»، وهو مجموعة فصائل محلية مسلحة، كان وقع تلقي الرصاص دون رد أصعب عليه من سواه. وضمن التوتر الظاهر عليه صاح في المتجمّعين حوله: «نحن قلنا سلمية، والثانية سلمية، والثالثة سلمية، والرابعة بمعيّتكن» ملوحاً بيده في الهواء وبنفاد صبره في الفضاء.

في اليوم التالي صوّرت إحدى المنصات الإعلامية لقاء معه، بصحبة الشيخ سليمان عبد الباقي قائد «تجمع أحرار جبل العرب»، وفيه أبرز مرهج وجهاً مختلفاً. بهدوء واتزان أبدى تفهمه للخطأ الذي وقع فيه حراس الفرع، بدافع الخوف كما قال، داعياً الضباط وضباط الصف والجنود إلى تجنب المواجهة مع أهل البلد وإلى الانشقاق. مؤكداً أن ما يطالب به الحراك من حقوق يشمل الجميع، بمن فيهم هؤلاء العسكر وحتى تعويضات أبناء «الشهداء» الذين سقطوا في سبيل كرسي بشار الأسد. داعياً «الإخوة البعثيين» إلى العودة إلى أهاليهم والانحياز لبيئتهم. مذكّراً رفاقه في الحراك بضرورة الانضباط الأخلاقي والمحافظة على مستوى من الالتزام بألفاظ الإدانة السياسية لا الشتائم. وذلك دون أن يتحول مرهج، الذي كان قد تجاوز الخمسين عاماً بقليل، إلى مثقف أو ناشط، بلحيته السوداء الكثيفة وأثر الوشم القديم على ذراعه.

في الفيديوهات اللاحقة، وهي ليست كثيرة، حافظ الرجل على سمت ابن البلد هذا، بإظهار وعي «فطري» يخلو من المصطلحات ولكنه يصل بسهولة إلى المقاصد التي يهدف إليها الحراك، المشابهة لمطالب وشعارات الثورة السورية في العام 2011 خاصة.

وبرز مرهج أحد أبرز رؤوس حربة الحراك. كان من أوائل الداعين إليه، وبسط عليه حمايته في حال تعرض لاعتداء. انطلق من المطالب المعيشية ورفع السقف بسرعة إلى الكرامة والحقوق والعدالة ثم إلى إسقاط النظام. رفع صوته هاتفاً: «سوريا لينا وما هي لبيت الأسد»؛ «عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد» حتى أصبحت هذه الشعارات يومية وألِفتها آذان المارة في مدينة لم تخرج فعلياً عن سيطرة النظام. حتى لفظ الحراك الشائع لم يرد كثيراً على لسان الجرماني، مفضلاً عليه مفردة «الانتفاضة» أو «الثورة» التي كان يرى، وهو يدافع عن الدعوة إلى الإضراب العام في الأشهر الأولى، أنها تحتاج إلى «شوية غضب»، وليست «ثورة فراشات وثورة زهور وثورة عصافير تزقزق». مؤكداً، في كل مرة يختم فيها حديثه في الساحة أو في المجموعات المتكاثرة على وسائل التواصل الاجتماعي أو عبر الاتصالات، أنه لن يتفرّد باتخاذ أي قرار لا يوافق عليه المحتجون ويراعي مصالح أهل البلد جميعاً، حتى الرماديين منهم أو المؤيدين. مبدياً احترامه للعادات والتقاليد والعائلات وشيوخ العقل، ولا سيما للشيخ حكمت الهجري الذي أرخى مظلته على الحراك.

ولكن ذلك أوقف في فجر يوم 17 من تموز الماضي، عندما أُعلن عن مصرع الجرماني في فراشه بطلقات مسدس كاتم للصوت.

سادت الصدمة وخيّم الوجوم واتجهت الاتهامات إلى النظام بطبيعة الحال. وهو ما عبّر عنه مشيّعو مرهج، في موقف كبير حضره شيوخ ووجهاء وسياسيون وناشطون وحشد من المعزّين، حين قالوا «دمك مرهج راس الأسد محله» متوعدين بالثأر الذي لم تغفل عن التلويح به كاميليا أبو فخر، أرملته التي ظهرت في مشهد فاجع وسط عدد كبير من النساء، وإلى جانبها ابنتهما المذهولة دلع.

على صفحتها في موقع فيس بوك كتبت كاميليا: بعد غدرهم بك يا سبع المراجل ظنوا أنهم نالوا القمة التي كنت تشع منها.. ظنوا أن مائدتك طُويت بغياب جسدك ونسوا أن عظمة أفعالك تمد لها الموائد أينما حلت. اشمخي يا روح مرهج فلن يهزوا عرشك. أما الفتاة التي لم تتم العشرين فكتبت: سألتك يا بيي إذا رحت من مين مناخذ ثارك؟ قلت لي يا دلع رب العالمين شايف فوق، ومثل ما بيسّرني عالحق راح ييسّرك انتي وإخوتك إذا كنتو مثلي. قلت لك: طيب ونحن شو منعمل لنكون مثلك؟ قلت لي: ما بدي منكن شي غير تحفظوا الكرامة لأني ورثتكن ياها. أني لا غني ولا رئيس ولا ملك ولا معي ورثكن غير هالبيت وهالكرامة وهالتاريخ. وإذا بدي وصيكي فوصاياي مكتوبة بوصايا كليب لأخوه وأني بوصيكي ياها انتي وإخوتك نفسها تماماً. وقتها ضحكت وقلت له: يا بيي عم نمثل نحن؟ قال لي: لأ. أني من صغري بحضر الزير، فوق الألف مرة حاضر هالمسلسل، وكنت أقرا قصصه بدل ما روح عالمدرسة. بدي تعرفي أنه كل وصية وصّاها كليب أني بوصيكن ياها لأني بعرف أني خلفت 3 شباب وانتي عندي سند بغياب خيك مثل ما أني سند الكن طول عمري. مشيراً إلى ابنه الأكبر، غيث، اللاجئ خارج البلاد، والأصغر ابن الثماني سنوات.

ولذلك لم يكن هناك أغرب من الخبر الذي انتشر في الخامس من هذا الشهر، من أن صادق شقيق مرهج قتل كاميليا، أمام منزلها، محمّلاً إياها مسؤولية دم أخيه. ومن مسارعة «لواء الجبل»، بعد ذلك بأيام، إلى نشر نتائج التحقيق الذي كان يجريه في الظل، والذي توصل إلى أن دلع هي من قتلت أباها، بتحريض من أمها، وعن تخطيط، وبعد محاولة سابقة لتسميمه.

سادت صدمة أشد هذه المرة، ولا سيما بين أوساط الحراك ومؤيديه في داخل البلاد وخارجها. فلجؤوا إلى بعض النقاط الثانوية في التحقيق ليثيروا حولها التساؤلات، أملاً في ترميم قناعتهم التي كانت راسخة عن مسؤولية النظام الذي لم يكن أبواقه، المترصّدون يومياً، بحاجة إلى قصة أنسب من هذه ليشكّكوا في الحراك ورموزه وأهليته وارتباطه.

لكن محاولات الناشطين التملص من الحقيقة المرّة واهية في الواقع. فمن أعلن عنها هم جماعة مرهج الأقربون، رفاق السلاح، ومن شهد اعترافات الفتاة هم عائلتها التي قررت تسليمها إلى الجهات الحكومية لتخضع للقضاء. ومن غير المعقول أن تتواطأ أقرب الحلقات، في العائلة والفصيل، على خيانة دم الجرماني وتأليف قصة غريبة كهذه تقرّ فيها الابنة بالقتل وصديقها بالتستر.

والحق أن المطّلعين في السويداء مطالبون بالإجابة عن أسئلة أعمق. فقد تبيّن، بعد تسليط الضوء على سيرة الرجل إثر مقتله، أنه كان، لمدة في بداية الثورة، من متطوعي «الدفاع الوطني»، القوات الرديفة للنظام في قمع السوريين في السويداء وخارجها. كانت هذه المعلومة، وربما ما زالت، على الهامش، رغم أنها مهمة لفهم مرهج وتحولاته الجادة التي لا نهدف إلى الشك فيها بل إلى تحليلها بأمانة. كما أن تواطؤ زوجته وابنته على إنهاء حياته أمر يجب أن يثير فضول العقل. وإذا كانت الفتاة تعاني اضطرابات نفسية، وربما عقلية، كما تشير أدلة عديدة؛ فإن هذا لم يكن حال والدتها ولا حال صديقها الذي ساعد على التخلص من السلاح. فما سبب العملية؟ وما درجة القسوة المنزلية التي كان يمارسها وصار الحديث يتناولها بصوت خجول في الآونة الأخيرة؟

مفهومٌ أن الحكاية تحمل بعض الحرج الاجتماعي و«الثوري»، وأن ناشطي الحراك يفضّلون تناسيها حتى يخمد ذكرها. لكنه من حقنا عليهم، نحن الذين من خارج البيئة، أن نفهم حقيقة الرجل الذي تبنيناه سيراً مع حبهم له، واعتمدناه بالاستناد إلى تقديرهم لشخصه، وألا نُحتَجز في مقاعد المناصرة!