لم تقتصر أدوات النظام في طريقته لإحكام السيطرة على المجتمع السوري، على القمع الشديد العاري، لا بل ربما يكون القمع خياراً أقل خطورة على المجتمع من باقي الأدوات الأخرى، فالقمع واضح، وصريح، وأطرافه معروفة ومحددة، وبالتالي فإن معالجة نتائجه وتحديد المسؤولين عنه تكون أكثر سهولة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العنف المستخدم في القمع قد يستفز ردات فعل عنفية غير محسوبة، وبالتالي يُمكن لها أن تشعل المخزون القهري الكامن تحت قشرة الاستسلام الظاهرة.
الأخطر من القمع العاري، هي تلك الأدوات المقنّعة بالدين، أو السياسة أو الاقتصاد، والتي يستعملها النظام بحنكة ودراية، كي يجعل من معارضة أي فرد أو جماعة له أمراً بالغ الصعوبة، ومحكوماً بالفشل، ليس بسبب عدم صحة هذه المعارضة أو صدقيتها، بل لاصطدامها بمعايير سياسية، واقتصادية ودينية رسّخها النظام داخل المجتمع عبر منهجية التضليل والكذب، ونشرها وعممها عبر مرتزقة من المثقفين، ورجال الدين، والسياسيين وغير ذلك. هذا الاصطدام بين المعارضة ومعايير مضللة سائدة داخل المجتمع، تدفع للإحساس باللاجدوى، وبالتالي إلى الاستسلام، والأخطر أنها قد تؤدي إلى نكوص كثيرين من المعارضة إلى الموالاة، والعودة إلى فكرة الاحتماء بـ "القطيع".
لاستقرار المعايير الجديدة، كان على حافظ الأسد أن يدمّر قيم المجتمع، هذه القيم التي كان بمقدورها أن تحمي المجتمع في أزماته، وأن تحافظ على ترابطه ووحدته
تبدأ مسيرة ترسيخ المعايير التي يريدها المستبد داخل المجتمع بالقمع أولاً، فهو الفاتحة التي لا بدَّ منها، ليس فقط لإسكات المختلف، بل أيضاً لإرهابه وإرهاب الآخرين، ثم تبدأ المراحل اللاحقة، والتي يُمكن تكثيف جوهرها كله بفكرة إضعاف المجتمع عبر خلق وإشعال صراعات داخله، وعبر تعزيز العوامل المفتتة لوحدته والكامنة فيه، بحيث يُمكن للحاكم المستبد أن يستعملها متى يشاء، فيحتمي بها، ويتهرب بها من مسؤولياته حيال المجتمع والدولة، وتصبح شماعته لتبرير نهب الدولة والمجتمع وانهيارهما.
لعل أخطر ما قام به حافظ الأسد بحق السوريين، هو منهجيتهه في تحطيم معاييرهم الأخلاقية والدينية والسياسية والاجتماعية، هذا المعايير التي أنتجها تاريخ السوريين، وعلاقات إنتاجهم، وقيمهم وثقافتهم، وهي - أي المعايير- ورغم أنها لم تكن متطورة بما يتناسب مع متطلبات الدولة الحديثة بمفهومها المعاصر، إلا أنها كانت تضمن استمرار استقرار المجتمع، وتفتح الباب أمام تطوره وتطورها، وهو - حافظ الأسد - بتحطيمه لهذه المعايير وفرضه لمعايير جديدة، إنما حطم ما يمكن تسميته مجازاً "العقد الاجتماعي الواقعي للسوريين"، وأنشأ عقداً اجتماعياً بديلاً، أعمدته الأساسية الفرقة، والاختلاف، ومعياره الوحيد هو: الولاء له ولنظامه.
لاستقرار المعايير الجديدة، كان على حافظ الأسد أن يدمّر قيم المجتمع، هذه القيم التي كان بمقدورها أن تحمي المجتمع في أزماته، وأن تحافظ على ترابطه ووحدته، واستبدلها بقيمة وحيدة، هي الولاء للنظام، وعندما اختلف السوريون حول النظام المستبد الذي أذاقهم الذل، وأفقرهم، وجوّعهم، لم تكن القيم التي توحدهم باقية، فذهبوا إلى عصبياتهم، متوهمين أنها قادرة على حمايتهم، فحدثت الكارثة.
أيضاً، ولتكريس المعايير الأسدية، كان لا بد من إزاحة حَمَلة الفكر، والثقافة، والسياسة ورجال الدين الحقيقيين، الذين يعرفون جيداً مسؤوليتهم حيال الوطن والمجتمع، والذين يمكن تسميتهم بضمير المجتمع، فأزاحهم، ثم أعلى من مقام حثالات المجتمع، ورفع شأنهم، وسلّمهم شؤون الآخرين ليتحكموا بهم ويقرروا مصيرهم، فأصبح سفهاء سوريا هم واجهتها، وأصبح لصوصها رجال اقتصادها، وأصبح إمعاتها هم مثقفيها وساستها، وكان من الضروري لكي تكتمل دورة الخراب، أن يفرض حافظ الأسد على سوريا رئيساً قاصراً عقلياً ونفسياً.
أيضاً.. وأيضاً، ولتكريس المعايير الأسدية كان لا بد من تجويع السوريين، ومن ربط كل قدراتهم الاقتصادية بمؤسسة الاستبداد، والتي تتبع للمستبد الأكبر، ولم يكن أمام السوريين لكي يعملوا وينتجوا، إلا الخضوع لقانون هذه المؤسسة، ودفع الخوّة لها، وتمجيدها، ولم يكن أمام الفقراء خصوصاً، ومن أجل لقمة الخبز إلا أن يكونوا عبيداً في هذه المؤسسة.
من يتحمل المسؤولية الأكبر في دمار المجتمع سياسياً، وأخلاقياً، ودينيا ليس القمع والاستبداد فقط، إنهم رجال السياسة المنافقون، والمثقفون المرتزقة، والمفكرون الذين أقالوا ضمائرهم، وسخّروا فكرهم لحماية مصالحهم عبر التمجيد للمستبد، وعبر تجاهل الكارثة التي كان يؤسس لها أمام أعينهم.
لماذا أعلى النظام السوري حثالات المجتمع السوري، وأبعد السوريين الجديرين والأكفاء؟ ولماذا حطم قيم السوريين وأخلاقهم؟ لماذا كرس قيم الفساد واللصوصية والانتهازية؟
منذ فترة ليست طويلة، توفي رجل في إحدى قرى الساحل السوري، كان قد اعتبر "شيخاً" ليس بسبب علومه الدينية، ولا بسبب زهده، ولا بسبب تقواه، ولا بسبب دفاعه عن القيم والحق كما يفترض برجل الدين الحقيقي، بل لسبب وحيد هو علاقته بالمخابرات و"حزب الله" اللبناني، ولم يكن مفاجئاً اهتمام حزب الله وعصابة الأسد بوفاته، لكن المفاجأة كانت في انجرار مئات آلاف السوريين إلى تعظيم هذا الرجل، واعتباره رمزاً دينيا، الغريب أنه وكما لو أننا في حضرة طاعون ينتشر في مجتمع غير محصّن، بدأت جموع الناس بما فيها الأغلبية الساحقة التي لم تسمع به من قبل، تتفجع عليه، كما لو أنها فقدت ركناً أساسياً من أركان المجتمع، بينما يرحل بصمت، وبتعتيم متعمد، وبلا أي صوت، سوريون يستحقون بجدارة أن يكونوا فخراً للسوريين.
لماذا أعلى النظام السوري حثالات المجتمع السوري، وأبعد السوريين الجديرين والأكفاء؟ ولماذا حطم قيم السوريين وأخلاقهم؟ لماذا كرس قيم الفساد واللصوصية والانتهازية؟ لماذا عمّم الرشوة وجعل منها قانوناً أساسياً في علاقة المواطن بالدولة ومؤسساتها؟ لماذا سجن، ونفى، وشرّد أفراد الأحزاب السياسية الحقيقية، فحطمها واستبدلها بدكاكين المرتزقة؟ لماذا أصبح رجال الدين يتبعون لأجهزة المخابرات، لماذا.. لماذا؟
كلُّنا يعرف الإجابة على هذه الأسئلة، وكلُّنا يعرف النتائج التي ترتبت على هذه الطريقة في إدارة الدولة والمجتمع، وكلُّنا يعرف أن هذا الدرب لن يقود إلا إلى الدمار، فلماذا لا نبني على معرفتنا هذه في رسم طريق آخر لنا، طريق يمكن أن ننجو به، وأن ينجُ وطننا ومستقبلنا؟
اليوم تدفع سوريا ثمن تهميش الكفاءات ونفيها واستبدالها بالمحسوبيات والحثالات والمرتزقة، وبالتالي يصبح من الضروري أن تعود المعايير الحقيقية لتحديد القادرين على إنقاذ سوريا من الكارثة التي أسس لها وكرسها حكم عائلة الأسد.