عادت شام المجد من المدرسة متلهفة كأيّ طفلٍ حصّل معلومة جديدة يعتقد أنها ستذهل أهله، لم تعطِ لأمها الفرصة للقيام بالأمور الروتينية اليومية عند الانصراف، كانت تتوق لدفق ما في جعبتها دفعة واحدة، وبحماس طفولي وافتخار قالت لأمها: ماما هل تعلمين ماذا حصل في يوم أون سيكيز مارت (18 آذار باللغة التركية)، وقفت أم شام مشدوهة من السؤال، كيف عرفت شام أن اليوم هو ذكرى الثورة السورية؟.. ماذا يمكن أن يكون قد حدث في المدرسة التركية التي تحتضن شام المجد؟ من تحدث عن الثورة يا ترى؟.. قالت لتستحثها على المتابعة: لا أعرف، قولي أنتِ ماذا حصل؟
وهنا كانت المفاجأة، عندما بدأت شام تسرد بحماس وتأثر وافتخار ماذا حدث في أون سيكيز مارت!
في مثل هذا اليوم قبل مئة وأربع سنوات انتصرنا في معركة جناكالي (جناق قلعة عام 1915)، وقاد الزعيم مصطفى كمال أتاتورك الجيوش إلى هذا النصر
في مثل هذا اليوم قبل مئة وأربع سنوات انتصرنا في معركة جناكالي (جناق قلعة عام 1915)، وقاد الزعيم مصطفى كمال أتاتورك الجيوش إلى هذا النصر.. كان الجنود ينامون على الثلج ويأكلون كل يوم رغيف خبز يابس فقط، ولقد خسرنا 150 ألف شهيد، لولاهم لما كان وطننا موجوداً الآن، وما كنا نحن موجودين.. ولا حتى أنت نفسك كنتِ موجودة!.. قالت لأمها بحزم وهي تغالب الدموع!.
شام المجد التي وُلدت خارج وطنها بعد ثورة الكرامة، وهي في الصف الأول الابتدائي الآن، تعيش وضعاً طبيعياً، وسرديتها التي أذهلت أمها، وأرّقتني، هي جزء أصيل وطبيعي مما ستكون عليه إن استمرَّ نفينا من وطننا، فشام تعرف أنها سورية وأن مجرماً قاتل أطفال قد اضطرنا نحن وغيرنا للخروج من وطننا، لكن هذه السرديات لن تسهم في تشكيل وعيها وانتمائها وثقافتها كما تفعل المدرسة والمحيط والمجتمع.
أون سيكيز مارت، ليس ترجمة للثامن عشر من آذار، كما نعتقد، فثمة حدث آخر مختلف تماماً، سيجعل الترجمة بلا معنى، ويطغى على الحدث الأول الحكائي، لأنه (الحدث الآخر) وصائي وتعبوي، وهذا من طبيعة الأمم وثقافاتها، ولكن بدل أن يدرسه أولادنا كتاريخ لأمة أخرى، صاروا يتفاعلون معه كتاريخ خاص بهم.
هنا سيدور الحديث بطبيعة الحال عن دور الأهل، وهو موجود بسقفه الأعلى، ولكن في حدود ما يمكن تناوله من قبل طفلة بسن السادسة، وفي كل الأحوال لن يكون مؤثراً كدور المدرسة والرفقاء والمجتمع، خاصة مع تبلور ثقافة البلد المضيف كلما تقدمنا في المنفى.
وفي المنافي ربما نجد أنفسنا عما قليل مضطرين لترجمة أنفسنا وجراحنا وأمنياتنا، ليس للغرباء، بل لأبنائنا!.
الحادثة يمكن تناولها كتفصيل يصب في قناة أعرض وأعمق، فالأجيال التي عاشت الثورة السورية على أي مستوى، ومع تفاوت المشاركة والتفاعل والتضحيات.. شكلت قناعاتها وبلورت مواقفها التي لا تموت حتى وإن تغيرت أو انحرفت، لكن الأجيال التي وُلدت وتُولد في المنافي والشتات هي التي تشكل التحدي الأصعب، فقراءتنا- مهما كانت عميقة وعالية ومُصرَّة- لن تكون الأكثر مقاربة لواقعهم الذي سيملكونه بعد حين، إذ إن المجتمعات المضيفة لها سيرها وبطولاتها وأدبياتها التي ستكون الأوثق والأقرب والأكثر مصاحبة حتى تتغلغل في الوجدان وتشكله، وهذا هو الطبيعي في الأمم المستقرة.
وبكل تشوق ولهفة؛ أخذت شام المجد جهازها اللوحي (الآي باد)، وراحت تستعرض بطولات معركة جناق قلعة، وتردد بأسى عميق: الله يقتل الذي قتل جنودنا..
وإذ يمكن تقديم معلومات أوضح وأعمق وأجرأ في مراحل عمرية متقدمة، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال تفكيك الوجدان وتغيير الأدبيات جذرياً، ما يعني أن قضيتنا نحن الآباء، في الشتات، ربما لا تكون القضية الأولى لأبنائنا، مهما جاملونا أو احترموا تاريخنا، خصوصاً إن عجز هذا التاريخ عن بناء مستقبل يحتويهم أو يكون فضاء آمناً لهم ومقنعاً فعلياً لا نظرياً بإمكانية الحياة.
وفي المنافي ربما نجد أنفسنا عما قليل مضطرين لترجمة أنفسنا وجراحنا وأمنياتنا، ليس للغرباء، بل لأبنائنا!.