من البدهي القول: إن الصراع السنيّ - الشيعيّ مفتوح بلا نهاية، وإن ما يتحكم به هو غلبة طرف وخمود آخر، أو ظروف اقتصادية وسياسية، دولية أو إقليمية... وقد حصد هذا الصراع أرواح الملايين عبر ثلاثة عشر قرناً، وأنتج دولاً وأباد أخرى، وكتب فصلاً خاصاً به في تاريخ المنطقة وشعوبها.
في "الدولة" الحديثة، القومية أو الديمقراطية أو سواها من التوصيفات المعسولة، كمنت الطائفية من دون أن تتقلص أو تضمحل، وارتدت لبوساً برّاقاً ثم تمظهرت في أحزاب سياسية وحركات مدنية وخيرية ودعوية... حاملة القتل والإقصاء والوحشية على حامل "المقاومة" مستترة وراء "القدس" التي تكاد تمثل العمود الأوحد لبيت الوجدان العربي، فخرجت من كهفها الطائفي إلى فضاء "القومية" واستقطبت كثيراً من القوميين وبعضاً من اليساريين في مُنجز يُعد حافظ الأسد منتجه وعرّابه الأول وليس الأخير.
ومنذ قدوم نظام الملالي إلى طهران، عام 1979، وجد حافظ الأسد حليفه الاستراتيجي المفقود والمُنتظر في آن، وهو الذي خسر جلَّ محيطه العربي الطبيعي، فعادى مصر والخليج والعراق والسودان وتونس... وسرعان ما أمدَّ الأسد الأب نظام طهران الجديد بما يلزمه من أسباب سياسية واقتصادية لإثبات الوجود، فحوّل سوريا إلى مزرعة إيرانية، بقيت تمدّ جنود إيران وجبهاتها ضد العراق بالمؤونة اللازمة، في الوقت الذي كان فيه السوريون على شفا الجوع، وبالمقابل، مكّنت طهران للأسد وشكلت له ظهراً ضد محيطه السني العربي، ومنذ ذلك الحين تشكل "حلف ديني- سياسي" لا يمكن فصم عراه، وهو ما أكده غياب الخميني وحافظ الأسد، وبقاء الحلف وتمدده..
يبدو نقاش العرب عموماً، والسعودية خصوصاً، مع نظام الأسد حول إقصاء إيران كشرط للعودة إلى الحضن العربي، حوار طرشان
إن الحديث اليوم عن احتمالية طرد إيران وميليشياتها من سوريا، وعلى وجاهته، لا يبدو ناضجاً بالقدر المكافئ لعمق العلاقة ومصيريّتها بين النظامين الطائفيين، ويبدو نقاش العرب عموماً، والسعودية خصوصاً، مع نظام الأسد حول إقصاء إيران كشرط للعودة إلى الحضن العربي، حوار طرشان، فهذا النظام إنما جابه العرب وحاربهم بإيران ولأجل إيران، واحتل إرادة لبنان بمباركة إيران، وهي التي استنصرها ضد شعبه، فنصرته، وليس صحيحاً أن التدخل الروسي الذي تأخر حتى الشهر التاسع من عام 2015 هو الذي أنقذ النظام، بل التدخل الإيراني الذي بدأ في مرحلة مبكرة جداً من عمر الثورة السورية، واستقدم عشرات آلاف المقاتلين العميان المسلحين بالحقد، الذين يقتلون على الهوية الطائفية، وهذا تماماً ما أحدث الفارق، وجنح بسفينة الثورة إلى لجة الحرب.
إراداتٌ كثيرة قوية الشوكة تريد اليوم اقتلاع إيران وميليشياتها وتركتها من سوريا، وعلى رأس هؤلاء الولايات المتحدة والسعودية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، وغيرهم، كما أن روسيا لا تتعارض مصالحها وذلك الأمر الذي يبدو بلوغه أبعد من مجرد عقد تحالفات علنية أو سرية وتضافر جهود سياسية وعسكرية... فإيران أوغلت في الجسد العربي ونالت من وحدته ما نالت، فمزقت الكيان السوري واللبناني واليمني، مع إحداث شروخ ظاهرة الأثر في الجسد الخليجي، ما أجبر الحلفاء على الدخول في مفاوضات معها لم تُجدِ نفعاً، وبالتالي كان لا مناص من الانتقال إلى الردع العسكري والاقتصادي، وهو ما آتى أُكُلَه بشكل كبير وزاد في أوجاع الدولة المترنحة اقتصادياً والمرتبكة داخلياً، حتى غدت عاجزة عن مدّ حلفائها الرئيسيين (نظام الأسد وحزب الله) بالعتاد اللازم لمواصلة القتل، لكنها ما زالت تجد في دمشق واللاذقية وبيروت ملاذاً أخيراً ومنفذاً منقذاً من الهلاك، وبالتالي فإن "الحرس الثوري" الإرهابي سيُنشب أطول مخالبه في الجسد السوري متعلقاً بحلم طريق الصحراء الموصل إلى البحر، مع إلغاء أي احتمال للانكماش أو الانكفاء إلى داخل الحدود الإيرانية، وهو المطلب الوحيد المعلن للمتحالفين ضد عدوانية نظام طهران.
تصدير "الثورة الإسلامية" كان الحلم الأسمى لإيران التي جيّرت كل إمكاناتها لتشييع المنطقة
إن تصدير "الثورة الإسلامية" كان الحلم الأسمى لإيران التي جيّرت كل إمكاناتها لتشييع المنطقة، وإنْ على بحر من دماء الأبرياء، ما جعل التراجع في هذا الوقت يعني هزيمة نهائية لهذا الجيل من القيادات الطائفية التي وعدت جماهيرها بالنصر، النصر على الآخر المختلف طائفياً والذي تم تصديره وتصويره كعدو مُتخيّل وإلباسه رداء "داعش" التي تم تصنيعها وتطويعها كبعبع لا يترك حلاً لجماهير "الثورة الإسلامية" إلا اللجوء إلى حرب إبادة!.
وإن كان للتحالفات العلنية والضمنية التي تُعقد وتتجلى ضد إيران في سوريا والمنطقة، دور هام وفاعل في إرهاق إيران عسكرياً واقتصادياً، فإن للشعب السوري ونظرائه في لبنان واليمن والخليج وسائر المنطقة العربية، دوراً في هزيمة فكر التطييف الإيراني، وتعميق الهوية الوطنية وتحديدها، وهدم أوهام "المقاومة" التي بنى منها نظاما طهران ودمشق أهرامات انتصارات زائفة تداعب عقول ونفوس المهزومين والباحثين عن انتصارات شعاراتية يائسة.
وبالتالي فإن هزيمة إيران لا تكتمل أركانها إلا بنفيها من العقول كقوة "مقاومة"، ووضعها في خانتها الصحيحة كعدو لا يستهدف مقدرات بلادنا واقتصاداتها بقدر ما يستهدف دين الناس وعقائدهم، ولنا في الأسماء التي يطلقها على كتائب القتلة التابعة له، وفي المناشط الدينية الطائفية التي يُقدمها على المكاسب الحربية في بلادنا، دليل وعبرة.