"عظم الله أجركم"، بهذه الجملة البسيطة شديدة التكثيف والوضوح نعبّر عن تضامننا مع أحبتنا وأصدقائنا في أعظم نازلة يمكن أن تلمَّ بإنسان، ألا وهي الفقد..
أما لماذا التكثيف والتبسيط؟ فلأن الخطب أكبر من أن تحيط به لغة مهما اتسعت وعظم بيانها، فالعربية صاحبة الاثني عشر مليون كلمة، كما يقال، عاجزة تماماً عن تلمّس عطب قلب أم ثاكلة أو أب فاقد أو ابن صُدم بفقد مسببات وجوده الأولى.. لذا يلجأ الناس على اختلاف لغاتهم وثقافاتهم وأديانهم إلى اللغة البسيطة الواضحة والفقيرة أيضاً في التعبير عن مواساتهم، وهذا الوعي البشري العالي نابع من إدراك حجم ألم الفاقد واحترامه، فكأننا نقول له: لغتنا مهما عظمت وعلت تتواضع وتخجل أمام مصابك.
زد على ذلك أن محاولة "التفلسف" في هذه المواقف سيبدو إهانة للمكلوم وتعالياً على مصابه..
"من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت"، هذه رسالة أبي بكر للناس في أعظم خطب حل بأمة الإسلام!.. بيان مقتضب واضح مكثف، ويمتاز بالعاطفية، وهنا نؤكد على دور الخطاب العاطفي في هذه المواقف، فالعقل هنا في حالة عطالة، مقابل تصعيد وهيجان عاطفي لا نهائي..
الشاعر عندما نبِّئ بوفاة ابنه أو أخيه أو زوجه، ناح وبكى وانتحب وولول وشق ثيابه ربما، لأنه تلقى الخبر بوصفه أباً أو زوجاً أو شقيقاً في الدرجة الأولى، وبعد ذلك يأتي دور الشاعر ليكتب أو يحاول كتابة ألم الفقد
وثمة أمثلة كثيرة في تراثنا الأدبي العربي تدعم هذه المقولة، فلا يظن ظانٌ أن المراثي العظيمة التي وصلت إلينا وسرت في ثقافتنا مسرى الأمثال، جاءت ارتجالاً أو استجابة لمنطق إبداعي.. كلا أيها السادة، ثقوا أن الشاعر عندما نبِّئ بوفاة ابنه أو أخيه أو زوجه، ناح وبكى وانتحب وولول وشق ثيابه ربما، لأنه تلقى الخبر بوصفه أباً أو زوجاً أو شقيقاً في الدرجة الأولى، وبعد ذلك يأتي دور الشاعر ليكتب أو يحاول كتابة ألم الفقد.
وفي المراثي نجد البساطة غالبة، وإن ذهب الشاعر أو الناثر إلى "التفلسف" والتعقيد، فإن ذاكرة الناس تحتفظ بالبسيط العاطفي وتهمل ما دون ذلك، ليبقى مادة لأبحاث الدارسين ليس إلا..
في واحدة من أشهر قصائد الرثاء، حفظ الناس عن الجواهري قوله في رثاء زوجه:
قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا عنهُ، فكيف بمن أحبابه فُقدوا
أي بساطة وأي عاطفة وأي تكثيف؟
ونلاحظ أنه في مطلع قصيدته لم يجهد عقله ولم يجتهد في البحث عن جديد يميز رثاءه عمن سبقه:
في ذمة الله ما ألقى وما أجدُ أهذه صخرة أم هذه كبدُ؟
فجعل موضع الحزن في الكبد، وهو ما درج عليه شعر العرب مذ عرفناه، فالكبد هو الذي يتمزق حزناً عند الفقد، وهذه ثابتة من ثوابت أدب الرثاء العربي.
بعدها يعود الجواهري إلى "جواهريته"، إلى لغته العالية وفلسفته مع بعض التقعر:
تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد
أعيا الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهمُ ماذا يخِّبي لهمْ في دَفَّتيهِ غد
طالَ التَمحْلُ واعتاصتْ حُلولُهم ولا تزالُ على ما كانتِ العُقَد
وهنا يفقد الشاعر الجمهور العادي/العام، ويترك هذا الأثر للباحثين في اللغة والأدب.
بهذا المنطق أريد التحدث عن مجزرة التضامن، التي كتب فيها كثير من الصحفيين والمحللين، ولم يجد خطاب كثير منهم صدى ولا رجعا، ذلك أن هؤلاء أوغلوا في مخاطبة العقل في لحظة اشتعال العاطفة، وهو الدور اللازم والضروري ولكن في وقته، وليس ونحن ما زلنا تحت تأثير صدمة الصورة، لم نستوعب بعد تلك الوحشية، ولم تتقبل إنسانيتنا الفعل، فكيف ندخل في تفسيره وربما تسويغه؟!..
لو سُخر إعلام العالم كله لوضع اسم للمجزرة، سيفشل، وسيبقى الاسم الذي ابتدعه الناس: "حفرة التضامن"
ومما كتب في هذا الباب مقال بعنوان "مجزرة التضامن: عن التوحش"، في صحيفة الأخبار اللبنانية المحسوبة على ميليشيا "حزب الله" للكاتب موسى السادة، وفيها يوغل الكاتب بتفسير وفلسفة المجزرة ومسبباتها وأبعادها وما يمكن أن يترتب عليها، مستشهداً بفلاسفة وسياسيين وحالات سورية وغير سورية مماثلة.. وإن كنتُ أتفق معه في نقاط وأختلف جذرياً في أخرى، فإنني لا أتناول هنا الموضوع بقدر ما أتناول اللغة ووسيلة النشر، فهذه المقالات/ الأبحاث يمكن أن تُنشر في وقت لاحق أو في وسائل أخرى، في مؤسسات بحثية مثلاً، ولكن ليس الآن وفي الصحافة التي هي الخبز اليومي للناس.. وإن كنتُ لا أصادر ولا أستطيع مصادرة حق أحد في الكتابة، فإنني أؤكد لكل من "يتفلسف" على المكلومين والفاقدين والمنكوبين، أنه إنما ينادي من مكان بعيد، وأن صوته لم ولن يصل، ولعلهم يعلمون أن الناس العاديين وحدهم هم من ينتجون وسائل التعبير في مثل هذه العظائم، فحتى لو سُخر إعلام العالم كله لوضع اسم للمجزرة، سيفشل، وسيبقى الاسم الذي ابتدعه الناس: "حفرة التضامن".
فلا تحاول فلسفة الموت لأم ثاكلة، ابكِ معها واحترم دموعها فقط.. ولا تتحدى المخيال الشعبي ولا تسرق من الناس آلامهم وأحلامهم ولا حتى أوهامهم، فهي سبيلهم الوحيد إلى مواجهة الحياة.