اختتمت اليوم الإثنين جلسات الدورة الرابعة من المؤتمر السنوي للأبحاث حول سوريا، بجلسة دراسات خُصّصت للحديث عن التاريخ السوري، بقديمه وحديثه، قدّم فيها باحثون وأكاديميون دراسات غطّت مختلف الجوانب الحضارية والتراث المادي واللامادي في سوريا.
استُهلت فعاليات اليوم الثاني والأخير من المؤتمر الذي ينظّمه مركز حرمون للدراسات المعاصرة في إسطنبول، وبرعاية إعلامية من تلفزيون سوريا، بمحاضرة قيّمة للبروفيسور توماس بيريه، حملت عنوان: الوزير ضد المفتي: الصراع على "الإسلام المعتدل" في المؤسسات الدينية لنظام الأسد (2011-2021).
أدار المحاضرة مدير تلفزيون سوريا، د. حمزة المصطفى، الذي أشار في تقديمه إلى أن بيريه اشتهر بكتابه المهم Religion and State in Syria: The Sunni Ulama from Coup to Revolution (الدين والدولة في سوريا: علماء السُنَّة من الانقلاب إلى الثورة) الذي تُرجم حديثاً إلى العربية، لافتاً إلى أن بيريه من أكثر الباحثين -العرب والأجانب- الذين قدّموا مشاريع وأوراق بحثية حول سوريا، حيث نشر قرابة 70 عملاً ما بين كتب ودراسات وأوراق بحثية ومقالات تحليلية... وبثلاث لغات: الإنكليزية والعربية والفرنسية.
الجلسة الأولى
اللاجئون السوريون والعدالة الانتقالية:
الجلسة الأولى التي أدارها د. سمير العبد الله، والتي تمحورت حول "التحولات الأيديولوجية واللاجئين السوريين بين التداعيات والمصالحات"، ضمّت أبحاثاً لـ4 أكاديميين، من المغرب والعراق وتركيا وسوريا.
البحث الأول كان لـ عبد المجيد السخيري من المغرب، بعنوان: "الدولة السورية من الشعبوية المتفسّخة إلى الشمولية المتعفّنة: الأيديولوجيا، السياسة والعسكر".
يسعى البحث إلى وصف تطور الدولة السورية في الحقبة الممتدة من الانقلاب البعثي إلى ثورة 2011، وفق النموذج الشمولي بما يوفره من أدوات ومداخل لتحليل حالة خاصة لدولة قامت على أسس أيديولوجية شعبوية سرعان ما تفسّخت وتحولت إلى شمولية قاسية تستثمر في تسييس الهوية، وترفع لواء الأيديولوجيا، وتتصرف باليد الطولى للقوة المسلحة.
فكل الظواهر والوقائع السياسية والمؤسساتية في التاريخ المعاصر لسوريا تكشف عن الطبيعة الشمولية للنظام، والماهية الجوهرية لسلطته المغلّفة بسرديات وشعارات أيديولوجية مغرقة في التزييف، سواء القديمة منها، كالوحدة والاشتراكية والتحرير، أو المحدثة، كالممانعة والمقاومة. ولو جاز لنا تكثيف وصف تلك الماهية، كما تجلّت في ممارسات النظام وأجهزة الدولة المملوكة من قبل نواته الصلبة، طيلة العقود التي تلت الاستقلال، لأمكن القول اختصارا بأنها "أقامت كيانها وفكرتها الجوهرية على نفي المجتمع والدولة (...) نفيا مطلقا"، وهو النفي الذي بلغ ذروته مع الانقلاب البعثي واختطاف الدولة من قبل العسكر سنة 1963، بعدما جرى التمهيد لذلك بمحو رصيد المرحلة الجمهورية الدستورية، وتدمير المكاسب الديمقراطية لفترة ما قبل الانقلاب، من خلال فرض السيطرة الشاملة على الفكر والاعلام والحياة العامة، وضرب التعددية السياسية، مع الابقاء على تعددية حزبية صورية ومُراقبة، لينتهي الأمر بافتراس "آل الأسد" لأبناء البعث من المنافسين ورميهم في السجون والمنافي، والاستفراد من ثمّ بالسلطة المطلقة، وإقامة كيان دولتي شمولي متوحش في صورة "جملكية" ما أنزل التاريخ بها من مثيل.
ويحاول البحث الإجابة عن الأسئلة التالية:
- كيف أمكن لضباط ضعيفي التكوين، وبلا رؤية لتنظيم الدولة وتدبير مؤسساتها بعقلانية وحكامة، وبلا كفاءة سياسية أو إدارية أو اقتصادية، أن ينجحوا في النهاية في إرساء دعائم دولة شمولية مُعزّزة بأيديولوجية "غامضة" وعنف قاس قوامه بطش العسكر المدجّج بعقيدة أمنية مستوردة من نماذج ديكتاتورية وفاشية سافرة؟
- ما الدور الذي لعبته القوالب الأيديولوجية المستعارة، والخلطات الفكرية المركبة في تعبيد الطريق للعسكر لبسط سيطرتهم المطلقة على مقاليد الحكم وانتاج نسخة محلية أشد مسخا من الشموليات البائدة؟
- كيف تحولت الدولة إلى ملكية خاصة تتصرف فيها الأسرة الأسدية بلا رقيب ولا حسيب بعدما تخلّصت من وصاية الأيديولوجيا، وجعلت العسكر ذراعها الوحيد في الامساك بالسلطة، ومن ثم الشروع في التقويض السياسي للمجتمع على نحو أدى إلى تغييب الإنتاج الاجتماعي للسياسة، وطرديا إلى تقويض قدرة القوى السياسية على أداء فعالياتها الاجتماعية؟
- كيف فشلت الدولة الشمولية في رعاية هوية وطنية جامعة للسوريين، وعمدت بدلا ذلك إلى تلغيم الكيان الاجتماعي والعبث بالهويات الفرعية بتغذية العصبيات الطائفية والإثنية والنعرات العشائرية والمناطقية وغيرها، مع تثبيت الولاءات القائمة عليها في شبكات معقدة من المصالح والريع والفساد تحت إشراف شامل للأجهزة الأمنية والعسكرية؟
السوريون في العراق:
الأستاذة في جامعة الموصل بالعراق، هند فخري سعيد، جاء بحثها بعنوان: "اللاجئون السوريون في العراق (الأوضاع والمستقبل)".
مع اندلاع النزاع في سوريا عام 2011م بدأت المعاناة الانسانية للشعب السوري الذي اندفع الى باب النزوح واللجوء هرباً من الواقع المأساوي فكانت وجهاته مختلفة، أكثرها كان الى دول الجوار وبالذات تركيا والعراق، والاخير رغم وضعه غير المستقر أمنياً إلا انه كان ملجأً لكثير من السوريين في الاقسام الشمالية منه في اقليم كردستان حيث الاوضاع الامنية مستقرة. وبما أن المشهد السوري اتصف بالمعقد، فالأطراف كثر والمصالح متضاربة والتنافس على انتزاع الارض وتبادل الهجمات مستمر الامر الذي ادى الى تفاقم الاوضاع السيئة للمدنيين، حيث اختنقت المخيمات باللاجئين وتوالي المحاولات الدولية لسد الحاجات الانسانية التي تعاني منها دول الجوار وفي مقدمتها العراق الذي هو في الاساس يعاني من وضع امني سيء كانت بداياته سابقة لاحداث سوريا منذ عام 2003 بل ان سوريا كانت وجهة لجوء للعراقيين طوال السنوات ( 2003 -2011)، لكن الحقيقة تقال ان واقع الحرب في سوريا غدت أشد وأعنف، واغلب المدن السورية تحولت الى ساحات قتال أمل توقفها بات بعيداً لذا فأن هجرة السوريين يلازمها ضرورة ايجاد وجهة امنة تحقق الاستقرار النسبية والاحتياجات الانسانية الضرورية على المدى الطويل لان مستقبل عودتهم الى مدنهم يشوبه الغموض وفقدان الامل.
وطرح البحث أسئلة للإجابة عنها:
- هل العراق بيئة صالحة للجوء السوري ام انه مرحلة انتقالية مؤقتو لحين ايجاد بلد ثالث يستقبل اللاجئين على مدى ابعد واكثر استقراراً؟
- هل يبذل العراق جهوده لتأمين شؤون اللاجئين السوريين ام ان العراق يمر بظروف معقدة تبعده عن الاهتمام بأمر اللاجئين وترك امرهم لمنظمات المجتمع المدني او ما تقدمه حكومة الاقليم
- مع تضاؤل احتمالية التوصل لحل الازمة السورية لابد من استجابة دولية اكثر شمولية وجدية في ظل هذه الدراسة نسعى الى تقييم مدى هذه الاستجابة؟
- ما مستقبل اللجوء السوري في عراق من حيث شرعية الاقامة وقانونيتها وتأمين السكن داخل المخيمات وخارجها الذي يطرح مشكلة كيفية تحقيق الاندماج؟ وغيرها من الأسئلة.
السوريون في تركيا:
الأكاديمي التركي أوكتاي يالجين، يتناول في بحثه "اللاجئون السوريون في تركيا: عقد من الزمان في بلد ما يزال غير مستقر"، الديناميكيات المعقدة المحيطة باستقرار اللاجئين السوريين في تركيا وميلهم نحو المزيد من الهجرة إلى وجهات أوروبية بعد انتخابات أيار 2023 في تركيا.
ويركز البحث على فهم المشهد المتطور بعد الهجرة، ويطرح سؤالاً محورياً: "ما هي العوامل التي تساهم في سعي اللاجئين السوريين المستمر إلى الاستقرار والتفكير في الانتقال إلى أوروبا؟"، ليسلّط الضوء على التحديات المتعددة الأوجه التي يواجهها السوريون والعوامل المؤثرة على قراراتهم بشأن الهجرة المحتملة.
ويكشف البحث عن شبكة معقدة من العوامل التي تشكل تصورات اللاجئين للاستقرار في تركيا وكيف تساهم العوامل الخارجية، مثل التغيرات في الأطر الأمنية والقانونية، في اعتباراتهم بشأن الانتقال. وعلى عكس السرديات التقليدية، يهدف البحث إلى توفير فهم دقيق للمعضلات التي يواجهها اللاجئون السوريون، والتعمق في تعقيدات عمليات صنع القرار لديهم.
العدالة الانتقالية:
أما الباحثة والأكاديمية السورية غنى بديوي، فقد ناقشت في بحثها المعنون: "العدالة الانتقالية قبل عملية الانتقال"، آليات العدالة الانتقالية قبل انتهاء الحرب.
ما تزال سوريا تعيش حالة صراع مستمر دون أي أفق سياسي واضح لنهاية محتملة. ارتكبت جرائم شنيعة، وما زالت مستمرة، من قبل الأطراف المتحاربة المختلفة على أرض المعركة. وقد بُذلت محاولات عديدة لإيجاد حل سياسي للحرب، لكنها باءت بالفشل. ومع ذلك، كان الخطاب حول العدالة الانتقالية في سوريا واسع الانتشار طوال فترة الحرب. وقد حاول السوريون المقيمون في الخارج والمتعاطفون معهم، من خلال التطبيق الإبداعي لأدوات مثل الولاية القضائية العالمية، محاسبة مرتكبي الجرائم الدولية في سوريا. وقد جرت بالفعل محاكمات لبعض الشخصيات الرئيسية السابقة في نظام الأسد في العديد من البلدان الأوروبية، حتى قبل انتهاء الحرب، أو أي تسوية سياسية ناجحة.
والسؤال الذي يطرحه البحث ويحاول الإجابة عنه هو: هل من الممكن أن تبدأ آليات العدالة الانتقالية قبل انتهاء الحرب؟
الجلسة الثانية
مجتمعات اللاجئين والنازحين:
تمحورت الجلسة الثانية التي أدارتها الإعلامية ربا حبوش، حول "تأثيرات الحرب وعوامل الاندماج الاجتماعي"، وقدّم فيها الباحثون تجارب مختلفة من الداخل السوري وبلدان اللجوء.
الباحث محمد شاوردي، تناول "دور مخيمات النازحين السوريين في إنعاش اقتصاد مناطق شمال غربي سوريا".
تعاني مناطق شمال غرب سوريا من تداعيات النزاعات العسكرية التي تلت ثورة 2011، حيث تم تشريد الكثير من السكان السوريين نتيجة الحرب. تشكل مخيمات النازحين السوريين حلاً مؤقتاً للعديد من هؤلاء النازحين. ولكن هناك تساؤلات حول دور هذه المخيمات في إنعاش الاقتصاد في تلك المناطق، وما إذا كانت تلك المخيمات تساهم في تحفيز النشاط الاقتصادي وتوفير فرص العمل، أم إن لديها تأثيرات سلبية على البنية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقة.
فما هو دور مخيمات النازحين السوريين في توفير فرص العمل للسكان المحليين في مناطق شمال غرب سوريا؟ وكيف يؤثر وجود المخيمات على سوق العمل والأجور في تلك المناطق؟ وهل لهذه المخيمات تأثيرات إيجابية على الاستثمارات المحلية ونمو القطاعات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة في المناطق المجاورة؟ وما التحديات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تنشأ نتيجة وجود مخيمات النازحين في هذه المناطق؟ والعديد من الأسئلة الأخرى التي يحاول البحث الإجابة عنها.
عشائر في ألمانيا:
"الشبكات القبلية والاندماج: مدينتا إسِن ودويسبورغ (ألمانيا) مثالاً" هو عنوان دراسة الباحث السوري أحمد الشمّام، الذي يرى أن مفهوم الاندماج تتجاذبه رؤيتان؛ واحدة تشكل الأساس الحقيقي واللبنة الأولى للعيش في المجتمع الأوربي وهي التي تفترض تعلم لغة البلد المضيف، ومعرفة قوانينه الأساسية واحترامها، والدخول في سوق العمل، وهي المنصوص عليها في المادة 3 و4 من الدستور الألماني، أما الرؤية الثانية فهي تفترض سقفا أعلى يتدرج في أطيافه غير المحددة حتى تصل إلى مستوى ينحو باتجاه ذوبان اللاجئين ثقافيا وهوياتيا في المجتمع الجديد.
يواجه الرؤيتين السابقتين موقفٌ رافض للاجئين أصلا، وهو مبني على تصور نمطي عن اللاجئين عموما سواء كان ينطلق من مركزية أوروبية أو من موقف ديني أو عرقي مثله اليمين الأوروبي والنازية، وقد شهدت العشرية الفائتة منذ 2011 حالة لجوء كبيرة إلى أوروبا نجم عنها حالة نزوح كبيرة وصلت بكثير من أبناء الجزيرة السورية، دير الزور والرقة والحسكة، إلى الهجرة وانتهاء المطاف بهم إلى ألمانيا.
لعبت كثرة أعداد اللاجئين إلى تصادف التقاء أبناء بلدات الشرق السوري المنحدرين من بيئة قبلية، وحصل تجمع أبناء البيئات السورية المتقاربة كأبناء حوران، وأبناء دير الزور والرقة والحسكة، كل بمكان سبقته مجموعة أخرى إليه، وقد توافد الكثير من أبناء الجزيرة إلى مدينة إسِن وجوارها في بلدات (دويسبورغ هيرنا هيرتن غلزنكيرشن) بعد تجاوز مرحلة الهدوء الحذر الرهبة الكبيرة مع حاجز اللغة والقوانين المجهولة، ظهرت بوادر تنبئ عن إعادة تشكل مجتمع جديدة تماثل مجتمعاتها الصغيرة في الوطن الأم؛ عبر الظهور باللباس العربي التقليدي، وإقامة الولائم الجماعية، والمجالس العربية التي تؤثث وتعقد، والمناسبات الخاصة والعامة في الأفراح والأتراح، نجم عنها تجمع العائلات المتشابهة في الذهنيات والطبائع والعادات من أبناء القبائل، وإعادة تشكيل علاقات وتشابكات جديدة تدور في فلك القبلية نفسه، وانعكست في مستوى العلاقات الاجتماعية بشتى أشكالها، وبدا أن مجتمعا جديدا موازيا بدأ يتشكل؛ قوامه تلك العائلات بعلاقاتها وقيمها وعاداتها وظهور ذلك في شتى مستويات التعامل الاجتماعي والاقتصادي منها كذلك، يذهب قسم كبير من هذه البيئات إلى أن التأقلم مع الواقع الجديد لا يعني الانضواء تحت ثقافته وتبنيها، كما يتعامل مع المجتمع المضيف كمرحلة مؤقتة للعودة إلى سوريا مستقرة وآمنة ، لكن تلك الطبيعة تحمل بين طياتها افتراقا واضحا حد التناقض بين بيئتين؛ داخلية مستولدة مغايرة، وبيئة عامة قارة يمثلها المحيط الجديد وصاحب الثقل والمشروعية قانونيا ومدنيا واقتصاديا، بين طريقة تفاعل أبناء تلك البيئات المتشابهة المتماثل والمشترك، والرؤى القاضية بضرورة حدوث تغير جذري في مستوى التعامل مع المجتمع الجديد والآثار المترتبة أو التي يمكن استشرافها، يدرس البحث تلك العلاقات وانعكاساتها عبر محاولة التعرف على عواملها وسياقات تكرسها وآثارها وآفاقها
وتظهر إشكالية البحث من خلال سؤالين رئيسين هما: ما أشكال تفاعل أبناء البيئات القبلية في منطقة إسن ومحيطها فيما بينهم؟ والذي يتفرع عنه السؤال الثاني: ما انعكاسات هذا التفاعل على قدرتها على الاندماج في المحيط الجديد؟
المجالس المحلية:
من جانبه، قدّم عبد الرزاق الحسيني بحثاً بعنوان: "حوكمة المجالس المحلية في شمالي سوريا (الباب، اعزاز، جرابلس) الواقع والمآل والطموح"، تناول فيه آلية الحوكمة في المجالس المحلية بمنطقة "درع الفرات".
تشهد الإدارة المحلية في مناطق الشمال السوري الواقعة تحت النفوذ التركي منذ عام 2017، خطوات بطيئة في التطور، وإن غياب الحوكمة فيها أثّر على إدارتها، حيث تتبع هذه المجالس لولايات تركية مختلفة، وهو ما أخّر حوكمتها وأضعف التنسيق فيما بينها، وحرمها من مميزات الحوكمة كالنزاهة والشفافية وتعزيز سلطة القانون، ومشاركة المواطنين في صنع القرار لتحقيق طموحاتهم بالتنمية المستدامة.
ويمكن اعتماد معايير الحوكمة الرشيدة التي وضعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP لقياس مدى تطبيقها في المجالس المحلية.
يعالج البحث تحديد الاستراتيجية المناسبة لتطبيق نهج الحوكمة في المجالس المحلية بمنطقة درع الفرات، لذلك كان لا بد من فهم واقع المنطقة، من خلال تحويل ترتيباتها الخاصة بالحوكمة من أنظمة قائمة على أساس العلاقات، إلى أنظمة قائمة على أساس القوانين، ومن حكم الأشخاص إلى حكم القانون، بحيث أصبحت الحوكمة من المداخل المهمة في تقييم الأداء.
الجلسة الثالثة
تاريخ سوريا وتراثها:
الجلسة الثالثة والأخيرة من جلسات الأبحاث في المؤتمر، التي تمحورت حول "التاريخ القديم وصورة السوريين في الأدب المحلي والعالمي"، وأدارها د. رشيد الحاج صالح؛ استهلّها أستاذ تاريخ سوريا القديم ولغاتها القديمة -سابقاً- في جامعة حلب فاروق إسماعيل بتقديم بحثه المعنون: "الوثائق الكتابية القديمة في سوريا: الواقع وآفاق المستقبل".
يتناول البحث موضوعاً يتعلق بآثار سوريا وتاريخها، ويسلط الضوء على مستوى الاهتمام بمصادر أساسية لها، خلال الفترة الماضية، ويحاول استكشاف رؤى مستقبلية تسهم في تحسين الواقع القائم.
وينطلق البحث من إشكالاتٍ عدة قائمة منذ عقود من الزمن، تشكّل مصدر تساؤلاتٍ تردّدت كثيراً لدى السوريين، من دون أن تلقى اهتماماً وبحثاً عن أجوبةٍ وممارسات عملية لتصحيحها؛ وأهمّها: عمّ تتحدث هذه المكتشفات؟ وما اللغات التي دُوّنت بها؟ لماذا تبقى معظم أعمال التنقيب الأثري حكراً على الباحثين الأجانب؟ أين الخبرات الوطنية، وما مستواها؟ لماذا تُنشر نتائج التنقيب والمكتشفات باللغات الأجنبية وحدها؟ ما هي الجهود العلمية السورية في هذا المجال، وما مدى معرفة المواطنين السوريين بها، وما مدى اهتمامهم بهذا التّراث الوطني؟ ألا يمكن إنشاء مراكز علمية سورية تبحث في هذا التّراث بخبراتٍ وطنية؟ وغيرها من التساؤلات التي تثير الشجون.
يكتسب البحث في هذا الموضوع أهمية خاصة تنبع من غياب دراسات سابقة تتعلق به، ومن أنه يضيء مشكلات ترتبط بالمصادر الأساسية لكتابة تاريخ سوريا والشرق القديم. وهو يهدف إلى توصيف مستوى الاهتمام بهذا التراث الحضاري المهم، وآفاق تحسينه في المستقبل.
سرديات فراتية:
ويبحث حسن الخلف في تفاصيل روائية تتحدث عن نهر الفرات، قبل بناء السدّ في مدينة (الطبقة) وبعده، من خلال بحثه: "روايات الفرات: جدل السردية الرسمية والسردية المضمرة".
على الرغم من أن تشييد سد الفرات في مدينة الطبقة كان عملا وطنيا كبيرا، وحاجة اقتصادية ملحة، فإن التبعات والتداعيات التي تركها بناء السد على الجماعة البشرية المستقرة منذ آلاف السنين حول سرير النهر كانت مؤلمة، كما كان إيلام الفيضانات السنوية التي كان يتعرض لها الفلاحون على جانبي النهر، وذلك لأن الحل الوحيد الذي ترك للجماعة البشرية هو التهجير إلى منطقة الحسكة، وهو حل كان يخدم أهداف النظام في التعاطي مع قضايا تهم دول الجوار ورؤيته للمسألة الكردية في سوريا، وهذا الحل جاء على الرغم من وجود حلول أخرى كالحل المصري الذي أنجز بعد بناء السد العالي.
حوّل هذه المشروع الاقتصادي أنجزت العديد من الأعمال الروائية في السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات من القرن الماضي، وهي الروايات التي أطلق عليها سمر روحي الفيصل محقا "روايات الفرات"، وتبلغ سبع روايات تناولت عملية بناء السد والتغيرات الاجتماعية التي حدثت في المنطقة جراء بنائه.
يهدف البحث إلى تغطية فجوة لم يسبق لها أن درست، وهي سبر النصوص الروائية التي تتحدث عن الفرات قبل بناء السد وبعده، ومدى دقة هذه الروايات في التغيرات الاجتماعية التي حدثت بالمنطقة جراء بناء السد من خلال عملية الترحيل التي طالت سكان منطقة الفرات بعد أن تسببت مياه السد بغمر أراضيهم الزراعية وقراهم السكنية، وأعطتهم اسما جديدا حيث أطلق عليهم مسمّى (المغمورون).
المسرح السوري في ظل "الأسد":
أما زياد عدوان، فيسعى في بحثه "هوامش الحريات في سوريا خلال حكم الأسد ودور المسرح في صياغتها"، إلى تفسير الأسباب التي منحت الفن المسرحي مكانة استثنائية تحت الحكم الشمولي للأسد (الأب والابن)، على عكس التعامل مع الأنشطة الفنية والأدبية والأكاديمية في سوريا.
لماذا تم الاحتفاء بالمسرح بخلاف ما واجهته الفنون الأخرى؟ ولماذا تمتعت الأكاديمية المسرحية بحصانة من الفساد والتدخلات الأمنية بطريقة لم تشهدها القطاعات التعليمية في سوريا؟ وباستثناء نص مسرحي وحيد، لماذا تم السماح بعرض جميع النصوص المسرحية التي كتبها مسرحيون سوريون اشتهروا بمعارضتهم للنظام الشمولي والأمني في سوريا؟ ولماذا اقتصرت عمليات التكريس والاحتفاء في الخطاب الرسمي على الأسماء التي أتت من المسرح كسعد الله ونوس، ومحمد الماغوط، وممدوح عدوان، ودريد لحام بينما تم تغييب الروائيين والسينمائيين والشعراء الذين شاركوا المسرحيين السوريين نبرتهم النقدية؟
تخوض الإجابات عن هذه الأسئلة بتحليل علاقة الدكتاتور مع الرقابة، والأيديولوجيا، ورعاية الفنون، وهندسة المجتمع. ارتبطت الحرية التي تمتع بها المسرح بمصطلح التنفيس، والذي شكك بالهوامش التي أتاحها النظام الشمولي للمسرح لانتقاد العديد من القضايا المحلية. ولكن يمكن تفسير هذه الامتيازات عن طريق النظر إلى مكانة المسرح في المجتمع من جهة وبين النخب والخطاب الرسمي في سوريا من جهة أخرى.
بالإضافة إلى الدراسات التي تناولت علاقة نظام الأسد بالفنون، كأبحاث ليزا ويدين وإدوارد زعيتر، يستند البحث إلى الأدبيات التي وضعها مفكرون من المعسكر الاشتراكي خلال الحرب الباردة، والذين خضعوا لأنساق متشابهة من القمع والرقابة التعسفية، والدراسات التي تناقش تشكيل الهوية المحلية بالتضاد مع الهويات السائدة، متمثلة ببارثا تشاترجي وكريستوفر ستون. كما يجادل البحث أن المسرح كان المكان الذي صاغ فيه النظام السوري هوامش المسموح والممنوع في سوريا، على صعيد الأفكار والانتقاد وعلى صعيد السلوك وصياغة العلاقات الاجتماعية بين السوريين على حد سواء.
"أدب الحدود":
آخر دراسات وأبحاث المؤتمر كان من نصيب سماح حكواتي وبحثها: "السوري آخراً، صورة السوريات والسوريين في أدب الحدود المكتوب بالألمانية: دراسة (صورلوجية) مقارنة"، الذي حاولت من خلاله دراسة صورة السوري في الأدب المكتوب باللغة الألمانية من قبل كتاب أجانب غير ألمانيين، وتشمل دراسة الصورة بسلبها وإيجابها صورة السوريات والسوريين، ومن ورائهما صورة سوريا كما رسمها الكاتب غير الألماني للقارئ الأوروبي، ما يجعل من السوري من هذا المنظور آخرًا في مرائي المتلقي، ويكون لصورته بعد تلقيها أثر إيجابي أو سلبي في التعرف على سوريا، يختلف مع ما يجول في وعي الأوروبي متحدث الألمانية عن سوريا من مصادر سابقة، فيصوب صورة السوريات والسوريين من جهة أو يشوهها من جهات أخرى.
يجهد البحث في تحليل هذه الصورة، وتقصي أسباب الإيجابية والسلبية فيها، والأثر الاجتماعي والثقافي والحضاري التي سيتمخض عنها من خلال سؤال: ما صورة السوري في أدب الحدود المكتوب باللغة الألمانية؟ الذي يتفرع عنه أسئلة أخرى، مثل: كيف كانت الصورة التي رسمها الكتاب الأجانب عن سوريا والسوريات والسوريين في أدب وجه إليهم وبلغتهم؟ وما دور أدب الحدود في الحوار الحضاري والاندماج وما تأثير صورة السوريات والسوريين السلبية أو الإيجابية في ذلك؟ وبم تخالف هذه الصورة بسلبها أو إيجابها أفق التوقع الأوروبي عن صورة سوريا والسوريين المستقاة من مصادر أخرى؟
اختتام المؤتمر
اختتمت فعاليات المؤتمر السنوي الرابع للأبحاث حول سوريا (2024) بجلسة ختامية أكّد فيها مدير مركز حرمون سمير سعيفان على أهمية ما قُدّم فيه من دراسات، مشيراً إلى أن المركز سيعمل خلال الأسابيع القليلة القادمة على تناول ومتابعة القضايا التي طرحتها، وخاصة المتعلقة بحالات العنف وآثاره الخطيرة على السوريين، بالإضافة إلى أوضاع النازحين في الداخل السوري ومخيماتهم، واللاجئين السوريين خارج البلاد.
كما شدّد على ضرورة أن تكون المؤتمرات القادمة مفتوحة بشكل أوسع لتشمل باحثين وأكاديميين من السوريين وغير السوريين، ومشاركتهم بالأبحاث المتعلقة بسوريا. بالإضافة إلى زيادة أيام جلسات وفعاليات الدورات المقبلة.
وصباح أمس الأحد، انطلقت أعمال الدورة الرابعة من المؤتمر السنوي للأبحاث حول سوريا، التي نظّمها مركز حرمون للدراسات المعاصرة بالاشتراك مع مجلة قلمون "المجلة السورية للعلوم الإنسانية"، على مدار يومين متتاليين (1 و2 من أيلول الجاري) في مدينة إسطنبول.
وشهدت النسخة الحالية من المؤتمر مشاركة واسعة من الباحثين السوريين، حيث قدم 22 باحثة وباحثاً أوراقاً علمية تغطي طيفاً واسعاً من القضايا المجتمعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعنى بسوريا والمجتمع السوري.
ويهدف المؤتمر، الذي يعقد حضورياً ويبثّ عبر معرّفات مركز حرمون على مواقع التواصل الاجتماعي، إلى توفير منصة حرة للباحثين السوريين للتعبير عن آرائهم ومناقشة أبحاثهم بحرية بعيداً عن القيود التي كانت مفروضة عليهم في بلدهم، وتعزيز التعاون بين الباحثين، وتأسيس شبكة علاقات تسهم في تبادل الخبرات والمعارف حول القضايا السورية.