تغيرت ملامح دمشق وشوارعها وزواريبها العتيقة، لم تعد حاملة للخير بين أصوات الباعة الذين ينادون على بضاعتهم القادمة من الغوطتين أو حوران أو سهول حماة، تبدلت وجوه دمشق، ونسي السوريون ما قاله شاعرها نزار قباني في عاصمتهم:
يا زواريب حارتي خبئيني
بين جفنيك فالزمان ضنينُ
واعذريني إذا بدوت حزيناً
إن وجـــه المحب وجــهٌ حزينُ
نعم الحزن، هو أكثر ما يعبر عن واقع الناس في سوريا ودمشق التي يقطن فيها مهجرون ونازحون من كل مدينة سورية. لكن إلى جانب الحزن يلازم الناس سياسة الإفقار، فنسي الناس طعم الفلافل والفول والحمص، باتت تلك الأكلات الشعبية غالية الثمن، وهي غالية بالنسبة لمدخولاتهم التي لا تتجاوز العشرين دولاراً بالشهر، فحلت عليهم بعد إفقارهم أكلات مستوردة ومعلبة ومصنعة تحمل شعار "وجبة البلد".
ومع هذا الحال نسيت سوريا اسمها في ظل إصرار النظام على شكل واسم ومضمون كل شيء، حرقوا البلد وبسمتها ووسامتها وبقي الناس في جوع أو بدائل غذائية لا تُسمن ولا تغني من جوع.
في 14 أيلول عام 2022، تدخل النظام السوري لمنع إغلاق معمل "إندومي" في سوريا بعد قرابة ساعات من إعلان المدير العام للشركة أيمن برنجكجي قرار إغلاقه، في لحظة قد يظن البعض أنها لدعم قطاع الصناعة ومن خلفه الشعب الذي يعيش 90 بالمئة منهم تحت خط الفقر، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، ولكن يبدو أن التدخل كان لأسباب أخرى.
عشرات من الشركات والمؤسسات أغلقت في سوريا للأسباب نفسها التي دفعت "إندومي" لإيقاف العمل، وعلى رأسها دخول شخصيات في النظام السوري كشركاء إجباريين لأصحاب الفعاليات الاقتصادية أو الصناعية أو التجارية بدءاً من رجالات أسماء الأسد زوجة رئيس النظام بشار الأسد وصولاً إلى أصغر عنصر مخابرات في النظام، أو لأسباب تتعلق بالفساد أو المخاطر الأمنية أو الخسائر المالية أو عدم توفر المواد الأولية أو تقنين الكهرباء أو التكاليف أو الخسارة وغير ذلك.
ولكن معمل "إندومي" يبدو أنه كان من المعامل "المحظوظة" التي تدخل "القصر الجمهوري" لحمايته من الإغلاق، رغم أن ملاكه لديهم معمل آخر في تركيا ينتج ويصدر إلى العديد من دول العالم أيضاً.
ومن المهم الإشارة إلى أن الحديث هنا يتناول "إندومي" التي اتخذت "وجبة البلد" شعاراً لها، وحصلت على استثناءات ودعم للاستمرار في عملها، مع وجود شركات تصنيع نودلز وشعيرية مقلية أخرى تعد غير معروفة وأسعار منتجاتها بالسوق أرخص ولم ترفع ذلك الشعار.
النودلز من مجاعة اليابان إلى سوريا
في آب 1945 شنت الولايات المتحدة هجوماً نووياً على مدينتي هيروشيما وناغازاكي في اليابان، ما أدى إلى مقتل 220 ألف شخص وإصابة عشرات الآلاف بحروق وتسمم إشعاعي وصدمات نفسية وسرطانات دفع اليابان إلى الاستسلام وإنهاء الحرب العالمية الثانية بفوز الحلفاء بقيادة واشنطن. خلقت تلك الحرب مجاعة كبيرة في اليابان دفعت "مومو فوكو أندو" لاختراع حل سهل الطهي وقليل الكلفة لمواجهة أزمة الغذاء التي كانت تعصف ببلاده، فاخترع وجبة "النودلز" السريعة التحضير بشكلها الذي نعرفه لأول مرة عام 1958، وأسس شركته "NISSIN".
إندونيسيا لا تستخدم النودلز كوجبة شعبية، ومع ذلك أُسست شركة "إندو" وقدمت أول وجبة "إندومي"، (إندو - اختصار إندونيسيا - مي: شعيرية)، وتم إنتاج أول وجبة بنكهة الدجاج، وبشكل سريع احتلت الشركة مكانها بالأسواق لسعرها الرخيص وطعمها المقبول، لتحتل أكبر سوق للنودلز في العالم.
مر زمن طويل منذ أن انتشرت شعيرية النودلز في آسيا والعالم، ولكنها لم تصل سوريا بشكل حقيقي حتى عام 2006 مع افتتاح أول مصنع لها من قبل "شركتي "سواب" والعربية للتوزيع، بحصة 20 بالمئة في حين تملك الشركة الإندونيسية الأم 80 بالمئة من قيمة المعمل.
و"سواب" هي شركة سالم ورزان برنجكجي المحدودة تأسست عام 2006 في مدينة عدرا الصناعية، كشركة رائدة في مجال الصناعات الغذائية، أما الشركة "العربية للتوزيع (ADCO)" فهي الشركة الموزعة لمنتجات المعمل.
لدى الشركة العربية للتوزيع أكثر من 30 ألف نقطة بيع في جميع المناطق السورية، وفروع رئيسية في كل من دمشق، وحلب، وحماة، وحمص، واللاذقية، وطرطوس، وإدلب، ودير الزور، والحسكة، والسويداء، ودرعا، والقلمون، والقنيطرة. محلياً، ويعمل في الشركة مئات الموظفين.
تنشأ المجاعة عادة من مسببين رئيسيين إما كوارث طبيعية كالزلازل والفيضانات أو فعل بشري من حروب واعتداءات، إلا أن الحروب في مقدمتها.
يرى الاقتصادي الهندي أماراتيا سين، أن المجاعة ليست مرتبطة تماماً بانخفاض إنتاج الغذاء الذي سيؤدي تلقائياً لحدوث المجاعات، إنما السبب الأساس هو "فشل الاستحقاق".
والاستحقاق، يعني حق الإنسان في الحصول على القدر الكافي من السلع والخدمات والقدرة على الاختيار فيما بينها. ويتوقف "استحقاق" الشخص على عدة عوامل من بينها تغير أسعار السلع أو فرض قوانين جديدة أو إصابة المحاصيل الزراعية بالآفات أو تعطيل توزيع الطعام بسبب الحرب، ومن ثم فيمكن أن تتعرض إحدى شرائح المجتمع للمجاعة دون أن يكون هناك نقص في الغذاء.
وفي الحالة السورية عانت مناطق كثيرة من الحصار وليس من نقص الإنتاج، وحالياً قد لا يكون هناك مجاعة مباشرة في سوريا، ولكن هناك فشل استحقاق اقتصادي مباشر، سببه سياسات الدولة وغياب أي رقابة مع معدلات فساد هي الأعلى عالمياً.
من هو مالك شركة إندومي؟
لا نعرف الكثير عن رجل الأعمال السوري أيمن برنجكجي سوى الموجود في المصادر المفتوحة، فهو من مواليد دمشق عام 1965، درس الأدب الإنكليزي في جامعة دمشق، بحسب موقع "من هم؟".
برنجكجي هو مالك ورئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي والمتحدث باسم شركة " سواب إندومي " منذ نيسان 2006 وهو أيضاً مدير "الشركة العربية للتوزيع" منذ عام 2007، والرئيس التنفيذي لشركة "أدكوتورك للصناعات الغذائية والتجارة المحدودة" في تركيا منذ عام 2009 التي تصنع نودلز إندومي في تركيا من خلال إدارة أبنائه، مع التأكيد على أن الشركتين منفصلتان في عملهما وميزانيتهما ولكن بإدارة واحدة.
مصدر خاص (فضل عدم الكشف عن اسمه) في الشركة أخبر موقع "تلفزيون سوريا" أن إدارة الشركة في الدولتين خاضعة لأيمن برنجكجي مع الفصل التام بين المؤسستين من الناحية المالية والاعتماد وطرق الإنتاج والتصدير.
وأيمن هو شريك مؤسس في عدة شركات سورية مثل "شركة داركو برنجكجي لمعالجة المياه" وشركة "تيسير للخدمات النفطية"، وشغل منصب المدير العام لشركة "MABC" لاستيراد المنتجات وتوزيعها بين 1997 و2007.
وشغل منصب رئيس مجلس رجال الأعمال السوري - الإندونيسي سابقاً، وحصل على العديد من التكريمات من قبل السفارة الإندونيسية بدمشق لنشاطه الاستثماري.
ويمتلك أيمن برنجكجي كذلك مطعم "بيت الشرق" (5 نجوم) في حي تنظيم كفرسوسة الراقي بدمشق، وهو قريب من مبنى مجلس رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية التابعين للنظام، وأبرز المولات التجارية بالعاصمة السورية، وأحد أبرز الأحياء التي يستهدفها الاحتلال الإسرائيلي في ملاحقته للضباط الإيرانيين في دمشق.
لماذا تدخل رأس النظام لمنع إغلاق "إندومي"؟
وبالعودة إلى قرار إغلاق إندومي الذي أُلغي على عجل، بدأت القصة في منشور مفاجئ على موقع فيسبوك من قبل المدير التنفيذي للمعمل أيمن برنجكجي بتاريخ 13 أيلول 2022 الذي قال فيه: " وداعاً لتعب 25 عاماً، اليوم كان آخر يوم وداعاً إندومي سوريا"، انتشر الخبر بسرعة كبيرة جداً، وخلال ساعات قليلة عدل صاحب المعمل عن إغلاقه.
ويعد إعلان الإغلاق هو الثاني المعلن، حيث أعلن برنجكجي نهاية 2016، توقف معمل إندومي سوريا عن العمل بسبب قرار حكومي لكن المعمل لم يتوقف حينها واستمر في عمله مع رفعه لأسعاره في ظل التضخم الذي يجتاح الأسعار بالأسواق السورية.
وقال برنجكجي حينها: إن قرار "الحكومة بترشيد الاستيراد، أضر باستيراد المواد الأولية للمعمل"، مشيراً إلى أن الشركة كانت تقدّم على 20 إجازة استيراد، لتجري الموافقة على ست منها فقط، الأمر الذي أدى إلى هبوط مخزون المعمل من المواد الأولية من ستة أشهر إلى عشرة أيام".
وقال برنجكجي حينها إن المعمل سيتوقف عن العمل لفترة حتى إقناع الشركة الأم بأن يستورد المعمل مواده الأولية من إندونيسيا، مضيفاً أن "كل ما طلبناه هو استرحام، ولو لشهر واحد لإجازة استيراد ريثما تتم الموافقة على تغيير بلد الاستيراد".
مصدر مطلع قال لموقع "تلفزيون سوريا" إن "عمرو سالم وزير التجارة الداخلية في حكومة النظام وقتها تدخل بطلب مباشر من مكتب بشار الأسد لوقف إغلاق المعمل".
وأضاف المصدر أنه لا يمكن لمعمل يضم المئات من الموظفين ألا يكون لديه علاقات مباشرة مع مسؤولي المخابرات والوزراء في النظام، لأن تأمين خط كهرباء لتغذية المعمل يحتاج واسطة كبيرة وإن كان صاحب المعمل سيدفع تكاليف ضخمة جداً بالدولار.
من يهتم بالناس أصلاً؟
وبيّن المصدر أن هناك عدة أسباب خلف قرار الإغلاق كان أبرزها تراجع الربح إلى درجة كبيرة جداً بسبب النفقات الخارجية التي تذهب إلى شبكات الفساد، كما أن المصنع لا يعمل بـ 3 ورديات يومية بسبب نقص الكهرباء ما يعني أن الإنتاج أقل من المطلوب، خصوصاً أن "إندومي" لا يصنع محلياً فقط بل لديه خط تصدير إلى لبنان أيضاً.
وبحسب المصدر فإن النظام طلب من إدارة المعمل الاستمرار بالإنتاج لأن الإندومي إن سُحب من السوق قد يشكل أزمة حقيقية فهو وجبة عناصر جيش النظام والشبيحة والموظفين الحكوميين وطلبة الجامعات والكثير من العائلات المهجرة التي تعيش في مناطق سيطرة النظام.
وكان موقع صوت العاصمة المحلي قد قال إن "القصر الجمهوري" بتوجيه من رئيس النظام بشار الأسد، تدخل لمنع معمل إندومي من التوقف عن الإنتاج في سوريا.
وكشف الموقع عن اتصال هاتفي جرى بين صاحب معمل إندومي أيمن برنجكجي و"القصر الجمهوري" بتكليف من مباشر من بشار الأسد بهدف ثني برنجكجي عن قرار إيقاف الإنتاج.
واشتكى برنجكجي خلال المكالمة من عدم توفر المواد الأولية وصعوبة استيرادها وعدم توفر القطع الأجنبي للدفع، وأنّ المعمل مستمر بالرغم من الخسائر الكبيرة التي حلّت به، مضيفاً أن أشخاصاً (لم يسمهم)، زاروه في مكتبه وفرضوا عليه إتاوات مالية تبلغ 50 في المئة من قيمة أرباح المعمل وبعد رفضه خفضوا النسبة إلى 30 في المئة، وأيضاً رفض دفعها وقرر تعليق عمل المصنع.
بشار #الأسد يتدخل "شخصياً" من أجل "إندومي"!
— تلفزيون سوريا (@syr_television) October 10, 2022
ما القصة؟#تلفزيون_سوريا #نيو_ميديا_سوريا pic.twitter.com/Ma6FMMEmmr
في المقابل، لا يعتقد الباحث الاقتصادي مناف قومان أن النظام يهتم بلقمة عيش السوريين، مبيناً "لو كان النظام يهتم فعلاً لكان ألقى بالاً للقمح والخبز؛ السلعة الأساسية لموائد السوريين. أعتقد الموضوع له شقان؛ الأول سمعة استثمارية لشركة أجنبية عاملة في سورية والعديد من البلدان حول العالم، الشق الثاني أعتقد أن مكتب أسماء الأسد الاقتصادي مهتم بالشركة وله أسهم فيها إما من الشركة الأم في إندونيسيا أو أنها قاسمت أيمن برنجكجي على حصة الامتياز البالغة 20% في سوريا، وعليه ليس من مصلحتهم إغلاقها، وقد يدعم هذا القول إن التجار الآخرين اشتكوا من تمويل المصرف المركزي طلبات الشركة لتمويل وارداتها".
هذا الوضع جاء مع التراجع الكبير للوضع الاقتصادي في سوريا، خصوصاً في عامي 2022 و2023، حيث تفاقمت معاناة السوريين مع إعلان برنامج الغذاء العالمي إنهاء برنامج مساعداته في جميع أنحاء سوريا اعتباراً من عام 2024 لنقص التمويل، بعد أن كان يقدم المساعدات الغذائية والعينية لـ 5.5 ملايين شخص يتوزعون على جميع المحافظات السورية.
هذه الضائقة لم تكن الوحيدة، فقد تسببت سياسات النظام الاقتصادية وحذف فئات من السوريين من سياسة الدعم (خبز ومازوت وغاز وبنزين وسكر وشاي) إلى تراجع هائل في قدرة ملايين السوريين على تأمين لقمة عيشهم، في الوقت الذي فقدت الليرة السورية أكثر من 52 بالمئة من قيمتها في عام 2023 فقط، بعد أن وصل سعر صرف الدولار إلى 14850 ليرة في أيار 2024 مقابل 7 آلاف ليرة في مطلع 2023.
فيما أن الذي أوصل السوريين إلى حد التعب المضني هو أن متوسط رواتبهم في القطاع العام نحو 250 ألف ليرة ( أقل من 17 دولاراً)، بينما يرتفع إلى 600 ألف ليرة (41 دولاراً) في القطاع الخاص.
ومع كل تدخل من بشار الأسد لرفع الرواتب بنسب ما بين 50 إلى 100 بالمئة تشفعه حكومته بقرار لزيادة أسعار الوقود بنسب بين 200 إلى 300 بالمئة، الأمر الذي أدى إلى إنهاء الطبقة المتوسطة وتحويل معظم الشعب إلى طبقة فقيرة فما دون ذلك تبحث عائلاتها عن أي حل لتأمين "الوجبة التالية" لأبنائها.
أرخص وجبة في سوريا
ويبلغ سعر وجبة النودلز الواحدة (من شركة إندومي) للمستهلك في المحال التجارية بين 3500 - 5000 ليرة سورية بحسب كل محل ومنطقة، إضافة إلى أن سعر ظرف الإندومي من نكهة الخضار أغلى من النكهات الباقية بـ 500 ليرة سورية، لكونه مرغوباً من قبل المستهلك بشكل أكبر، كما يتراوح سعر الكاسة الكرتون بين 6500 – 7000 ليرة سورية في المحال.
ويوجد أنواع نودلز أخرى مصنعة في سوريا بأسعار أرخص تبدأ من 2000 ليرة للقطعة الواحدة ولا تتجاوز الـ 4000 ليرة سورية.
وفي سياق ذلك، قال أسعد عبد الهادي طالب في جامعة دمشق، "أنا مضطر لتناول نودلز إندومي فهي أرخص وجبة في سوريا اليوم، ليس هناك أرخص منها، يعني بـ 5 آلاف ليرة قد أحصل على وجبة سريعة وطيبة".
وأضاف عبد الهادي لموقع "تلفزيون سوريا"، "الإندومي اليوم هو وجبة نصف الشعب السوري، وجبة رئيسية حرفياً، يعني معظم أصدقائي من الطلاب يشترونها ويأكلونها في السكن الجامعي ليلاً، وبالطبع قطعة واحدة منها لا تكفي، لذلك قد يأكل الواحد منا واحدة أو اثنتين على الأقل".
وأشار إلى أن "الإندومي أو الشركات الأخرى غير المعروفة تعلن عن عروض مستمرة، يعني 10 قطع بسعر 8، ما يدفعنا للشراء بكمية أكبر لتوفير أي مبلغ ممكن في ظل الوضع المعيشي السيء جداً".
من جانبها، قالت صفاء البقاعي، موظفة حكومية، إن راتبها لا يشتري أكثر من وجبتي غداء متكاملتين لأربعة أشخاص في الشهر، بالمقابل يمكننا شراء أكثر من 100 قطعة إندومي وأحياناً أكثر بالجملة، بالطبع لن نفعل ذلك، ولكن الواقع المعيشي في سوريا يدفعك دفعاً لاستهلاك مالا نحبه أو نفضله.
وأضافت البقاعي لموقع تلفزيون سوريا، أن النودلز والمعكرونة ليستا وجبات أصيلة، والشعب السوري لا يفضلها، يعني هناك وجبات رخيصة مثل المسبحة والفلافل والفول، أولاً هي مفيدة ولكنها باتت غالية وليس بمقدور الشعب شراؤها مثل قبل.
وأكّدت البقاعي أنه "لولا الحوالات الخارجية التي تأتي من أقاربنا لكنا لا نستطيع حتى شراء وجبات الإندومي، الناس مضطرة لتناول كل ما هو رخيص ورديء وأحياناً نصف خربان منشان تدبر حالها".
وأكّدت السيدة السورية قائلة: "حالنا صعب جداً، يعني من كان يتوقع أن يصل السوريون إلى هذا الحجم من الفقر والجوع والعوز، تصور أن إشاعات يومية تقرؤها على الفيسبوك وفيديوهات تراها على إنستغرام تقول إن النودلز مضرة، ومع ذلك الناس تتناولها دون أي اهتمام بذلك، ونرى أن نسب الأمراض تزيد يوماً بعد يوم، ولكن ليس بيدنا حيلة".
هل أصبحت وجبة البلد هي "إندومي"؟
وخلال السنوات الماضية تم قرن "إندومي" بالسوريين، من خلال رفع شعار عريض للترويج لها في شاخصات طرقية وإعلانات مصورة باعتبارها "وجبة البلد"، بعد أن أُفقر السوريون فاستعاضوا عنها بوجباتهم الرئيسية.
عمار أبو الهدى صاحب مطعم "شاميات" (فول وفلافل وحمص) قال: "من يتخيل أن سوريا التي يوجد فيها عشرات الأكلات أو الوجبات التاريخية، ستصبح وجبتها الرئيسية اليوم أرخص أكلة شرق آسيوية".
وأضاف أبو الهدى في حديثه لموقع "تلفزيون سوريا، "من يصدق أن حلب أقدم مدينة في التاريخ والتي قدمت عشرات أنواع الكبب والكباب والمحاشي في مطبخها العريق ستكون وجبة أبنائها اليومية من ثقافة ومذاق جديد، معكرونة مقلية مسلوقة بماء ساخن".
وتابع: "من يصدق أن دمشق أقدم عاصمة عرفها البشر والتي ظهر فيها صنوف من الأطعمة والأشربة والحلويات الشرقية تنتشر في أنحاء العالم اليوم، سيختلف نمط أكلها إلى (وجبة إندومي)، عبارة عن بهارات كثيرة وشعيرية مقلية ومياه ساخنة".
وشدد أبو الهدى على أنه "لا ينتقص ذلك من قيمة الطعام؛ أي طعام، فكل الطعام إن كان نظيفاً أو معداً بشكل يناسب الإنسان وإن كان خبزاً فقط سيكون نعمة لا خلاف عليها ولا يقلل من قيمتها، إنما محط النقاش هو التحول الكبير الذي يطرأ على سوريا وخصوصاً في مناطق سيطرة النظام السوري".
ولم تعد النودلز السريع التحضير وجبة ما قبل الغداء "سناك خفيف" (تصبيرة) أو تجربة نمط جديد من الطعام كما هو الوضع في الكثير من دول العالم، بل حولها النظام السوري إلى أسلوب طعام دائم يعيش عليها الطلاب والعمال وحتى العائلات.
والمشكلة في أن تناول النودلز أو الإندومي ليس خياراً بقدر ما أصبح حاجة، فكل إنسان لديه الحرية في اختيار الطعام الذي يريد تناوله، ولكن أن يكون ذلك خياراً شبه وحيد وأرخص من سندويشة فلافل إحدى الوجبات الشعبية الأبرز في بلاد الشام.
وعن تحويل وجبة شرق آسيوية غريبة لوجبة أساسية في البلد، قال الباحث مناف قومان لموقع "تلفزيون سوريا": "بشكل أو بآخر نعم، أسهم النظام السوري في ذلك. في الأصل الشركة أبدت رغبتها وقررت الإغلاق مرتين ولكن تم ثنيها وعادت للعمل. لو كان النظام غير مهتم بالشركة أو الوجبة لسمح لها بالإغلاق أو لم يعرها اهتماماً من الأساس بالبقاء أو الإغلاق، في حين أنه ذلل كل العقبات التجارية أمامها من ناحية حصولها على القطع الأجنبي، والتسويق واستمرار الإنتاج".
وبيّن قومان أنه "في ظل اقتصادات ليبرالية وأسواق مفتوحة، سيكون هذا طبيعياً ويعود إلى عمل القطاع الخاص وقدرته على تسويق المنتج للسكان ومن ثم اقتناع السكان بالمنتج ورغبتهم بشرائه. أما في ظل اقتصاد موجه ويغلب على طابعه القطاع العام لا شك أن الموضوع سيكون مستهجناً، فأول شيء سيتبادر للذهن لماذا لا يتم نشر ثقافة المأكولات أو المنتجات المحلية، والسؤال الآخر لماذا هذا المنتج بالذات وليس غيره؟ لا شك أن توجه حكومة ما لتبني هكذا نهج سيكون في معرض الانتقاد والتساؤل".
باعة جوالون و"نودلز" فرط
بالطبع هناك العديد من الشركات المنافسة لإندومي في سوريا، وجميعها تقدم "معكرونة سريعة التحضير" ولكن بهاراتها أو أطعمتها مختلفة لذلك لم تحقق النجاح المطلوب منها في السوق السورية، إلى جانب الشهرة الكبيرة التي حققتها إندومي خلال السنوات الطويلة التي عملت خلالها.
قبل أشهر انتشر في دمشق "إندومي فرط" أو منتج يشببها بالأسواق بأسعار أرخص بكثير من المغلفة، سارعت الشركة لنفي صلتها بتلك الموجودة بالأسواق مؤكدة أنها غير صالحة للاستهلاك البشري خصوصاً أنها مطبوخة بالزيت وهذا الزيت إن تعرض للأوكسجين يتحول إلى مادة سامة قد لا يظهر تأثيرها مباشرة على الجسم.
الإندومي أو المعكرونات الشبيهة تباع للتناول المباشر من خلال باعة جوالين أو عربات ثابتة بأوانٍ زجاجية أو كرتونية بأسعار قد تصل إلى 8000 ليرة للوجبة الواحدة وهناك أنواع تباع بأسعار أرخص دون معرفة مصدر تلك المادة أو جودتها أو مصدر المياه الساخنة المستخدمة فيها على أعين من أجهزة النظام التي تسمح بكل شيء مقابل رُشاً وتسعيرة.
ورصد موقع تلفزيون سوريا العديد من العربات لبيع الإندومي في دمشق وريفها وخصوصاً أمام المدارس والجامعات، بكأس بلاستيك والقليل من المياه غير معروفة المصدر، حيث يقسم البائع ظرف الإندومي على كأسين أو ثلاث، وتباع بأسعار أرخص من سندويشة الفلافل.
وفي خضم ذلك يجب التساؤل إن كانت هذه المعكرونة المغلفة أو غير المغلفة صالحة للاستهلاك البشري بشكل دائم؟ أو هل هي مسرطنة كما يشاع؟ ولذلك طرحنا السؤال على د. أحمد قطشه أستاذ مشارك في التشريح والفيزيولوجيا في كلية راريتين المجتمعية بالولايات المتحدة الأميركية.
وعن ذلك قال د. أحمد قطشه الذي درس في اليابان ويعرف عادات الآسيويين عن قرب ويقيم في أميركا حالياً "تعد الإندومي من الأطعمة المصنعة والتي تحتوي على كميات كبيرة من الإضافات والمحسنات الغذائية. وهي عبارة عن دقيق مضاف إليه محسنات لونية ليحصل على اللون الأصفر، إضافة إلى مواد حافظة".
وأضاف الأستاذ الجامعي السوري أن "هذه المعكرونة تصنيع للمعكرونة الآسيوية المعروفة بإسم النولدز. لكن هذه النولدز في المطاعم اليابانية والكورية، يتم تحضيرها وتصنيعها في المطعم نفسه، ولا تأتي جافة أو صفراء. بعكس التي تكون في عبوات الإندومي. المكونان المتبقيان هما المنكهات، وقد تكون على شكل سوائل أو خليط من البهارات. السوائل زيتية بالدرجة الأولى، وقد تحتوي على خليط الصويا".
هل "النودلز" وجبة صحية أم مضرة؟
ويرى د. أحمد أن المشكلة الكبيرة في الإندومي من الناحية الصحية، "هي فقرها بالمواد الغذائية الصحية النافعة. فهي فقيرة بالبروتين والألياف. وفي الحقيقة فإن النولدز التي تقدم في شرق آسيا في المطاعم تكون أغنى من ناحية القيمة الغذائية، لأنها غالباً ما تترافق مع خضراوات أو بيض أو لحوم أو أسماك. فتلك الوجبات تحتوي على مكونات غذائية مختلفة تجعلها وجبة ذات قيمة غذائية مقبولة، الأمر المفقود في الإندومي".
هل من مشكلة أخرى في النودلز المعلبة؟ يجيب د. أحمد: "نعم، احتواؤها على كميات كبيرة من مواد غذائية لا تعتبر صحية. فمثلاً تناول وجبة واحدة من الإندومي سيعطي الجسم 20% من حاجته من الدهون الكلية، وبين 20-30% من حاجته من الدهون المشبعة، و14% من حاجته من السكريات، والأخطر هو الصوديوم حيث تعطي الوجبة الواحدة مابين 48%-65% من حاجة الجسم من الصوديوم. لتقريب الأرقام، فحاجة الجسم من الصوديوم هي تقريباً ملعقة شاي من ملح الطعام، فتناول وجبة واحدة من الإندومي (أو غيرها من النودلز المعلب) يعني تناول نصف ملعقة شاي من الملح على الأقل، وهي كمية كبيرة من وجبة واحدة، وكمية كبيرة تدخل الجسم دفعة واحدة".
كما أكّد على أن أغلب الأطعمة التي نتناولها تحتوي على كميات كبيرة من الصوديوم، فوجبة واحدة من النودلز المعلب، غالباً غير مشبعة، تسد نصف حاجة الجسم من الصوديوم، ويصبح أي تناول له بعد ذلك، إضافة غير مرغوبة. الأمر نفسه بالنسبة لبقية الأرقام، فوجبة إندومي واحدة ستغطي 14% من حاجة الجسم للسكر، وهذا يعني أكثر بقليل من ملعقة صغيرة من السكر، في حين يحتاج الجسم لنحو 9 ملاعق صغيرة من السكر. وكما هو الحال مع الصوديوم، فيمكن تصور كيف تسهم وجبة إندومي واحدة بزيادة استهلاك السكر".
إضافة لذلك، قال د. أحمد إن "هناك مركبات كيميائية قد تعتبر ضارة وبعضها تعتبر مشتقات بترولية تدخل في صناعة المبيدات الحشرية، وإن كانت هذه المواد ليس بالضرورة في كل أصناف النودلز المعلب. لكن الفكرة هي وجود مركبات كيميائية ضارة".
وشدد على أن "استهلاك الصوديوم بكميات كبيرة، قد تم ربطه بالسمنة وارتفاع ضغط الدم، والسكر، وقلة امتصاص البروتين، والكالسيوم والفوسفور، إضافة إلى فيتاميني أ و ب".
وبشكل عام تم ربط استهلاك النودلز بشكل متكرر شبه يومي، بأمراض الاستقلاب والهضم، والتي تؤدي إلى مجموعة من الأعراض المذكورة أعلاه، بل وفي عام 2017 صدرت دراسة تمت على أكثر من عشرة آلاف من الطلاب الكوريين الذين يستهلكون وجبات مثل الإندومي، بينت أنه في النساء خصوصاً، واللاواتي يتناولن الأندومي مرتين أسبوعياً، فإن فرص إصابتهن بأمراض الاستقلاب والهضم تزداد بنسبة 68%".
كما ذكر أعلاه، فإن وجبة أندومي واحدة غير مشبعة، ويميل عادة الأشخاص لتناول وجبتين أو أكثر. لذلك ينصح د.أحمد لبعض التغييرات لتقليل المخاطر المرافقة. فمثلاً عدم استعمال الأكياس المرافقة، والاستعاضة عنها ببهارات منزلية أو موثوقة، كما يمكن إضافة بعض الخضراوات أو حتى البيض واللحوم عليها، لتحويلها إلى وجبة متوازنة أكثر"، وهو ما قد تكون الفئة الأفقر من السوريين لا تملك رفاهيته لذلك تضطر لاستهلاك المزيد من وجبات الأندومي الرخيصة السعر بشكل شبه يومي يجعلها بكل أسف "وجبة للبلد".
ما هي وجبة البلد؟
في النهاية، سؤال لحوح جداً، قد يخطر ببال السوريين، ما الوجبة الصحية والمشبعة في سوريا؟ ما الحل في زمن تفشي أنظمة الطعام والريجيم، مثل "الكيتو" وإدارة الوزن والتحكم بالدهون وغيرها على مواقع التواصل الاجتماعي؟
لا شك أن معيل أي أسرة سواء أكان أباً أو أماً لن يهتم لذلك، ولكنه سيبحث عن لقمة عيش حلال وتصرف عن عائلته الجوع.
وبحسب كلام "الدكتور أحمد قطشه"، أي طعام غير مصنع وفيه مواد حافظة سيكون نظيفاً وجيداً، مثل الطبخ المنزلي سواء كان فيه خضار أو بقوليات وحتى ولو كان من دون لحوم.
وبالطبع حتى ذلك، قد يكون صعباً على الكثير من العائلات مع الأسف، فجريدة "قاسيون" المحلية، قدرت في دراسة لها في شهر كانون الثاني 2024، متوسط تكاليف المعيشة لأسرة من 5 أفراد في مناطق سيطرة النظام خلال شهر واحد إلى أكثر من 12 مليون ليرة (قرابة 850 دولاراً)، بعد أن كانت تقدر في أيلول الماضي بنحو 9.5 ملايين ليرة (650.68 دولاراً).
وأشارت الدراسة إلى أن متوسط تكاليف المعيشة تضاعف 3 مرات خلال 2023، بينما لم تعد الأجور قادرة على تغطية سوى 1.5% من التكاليف المعيشية.
ورصد موقع "تلفزيون سوريا" بعض الأسعار في شهر أيار 2024، لنجد: "ثمن أقل سندويشة فلافل 10 آلاف ليرة، والقرص بـ 1500 ليرة، أما كيلو الفول سادة بـ 25 ألف ليرة، وكيلو الحمص (الناعم) 25 ألف ليرة، وأقل سندويشة شاورما بـ 22 ألف ليرة، أما الأندومي بـ 3500 ليرة.
وهذا قد يضعنا أمام امتحان أخلاقي كبير يخص جميع السوريين ونمط حياتهم وطعامهم اليومي، فنحن هنا لا ندعو لمقاطعة منتج أو شراء آخر، بقدر التنبيه والإشارة إلى أن الاعتماد على وجبة مصنعة مثل هذه في الغذاء ليس صحيحاً أو صحياً، وهي بالتأكيد ليست "وجبة البلد".