أعطوني واحداً، رُدُّوا لي واحداً فقط، أكحل عينيَّ برؤيته قبل أن أموت، لي ستة في السجن، ستة...، أريد واحداً... بهذه الكلمات كان يجهش العجوز، وهو ينتظر عبثاً أن يرى أحد أولاده يخرج من السجن... كلمات ينفطر لها القلب وتتمزق الأحشاء.
عشرات مثل هذا العجوز ينتظرون، ويروون قصصهم تحت جسر الرئيس وسط العاصمة السورية دمشق، يتسامرون فيما بينهم، فيروي كلُّ واحد للآخرين مأساته وحكاية أسرته مع معتقلات النظام لعلَّه يخفف عن المستمعين عندما يعرفون أنَّ ثمَّة قصَّة أشدَّ إيلامًا من قصتهم.
المشهد مأساوي وتفاصيله تعكس مدى البؤس الذي وصل إليه السوريون وما آلت إليه أحوالهم، والذل الذي يكابدونه في ظل حكم نظام العائلة الأسديَّة الذي يبدو أنه لا يرتوي من قتل الناس وإذلالهم.
المشهد مأساوي وتفاصيله تعكس مدى البؤس الذي وصل إليه السوريون وما آلت إليه أحوالهم، والذل الذي يكابدونه في ظل حكم نظام العائلة الأسديَّة الذي يبدو أنه لا يرتوي من قتل الناس وإذلالهم.
لكن ماذا لو سلك النظام مسلكاً آخر غير الذي تابعناه في عملية إطلاق سراح المعتقلين، واحترم بعضاً من إنسانيتهم وإنسانية ذويهم، كأن يبلغ أهالي المعتقلين قبل عملية إطلاق سراحهم، ويحدد تاريخ بدء العملية وتواريخ وصولهم إلى محافظاتهم، أما كان يمكن له أن يلمِّع صورة بعض الشيء؟
ولو افترضنا أنه أراد ذلك، فهل كان يستطيعه؟ إنَّه لا يستطيع بالتأكيد، ولن يستطيع، ذلك لأن طبيعة تكوينه الأقلّية لن تسمح له بذلك، ولسبب آخر هو أن هذه العصابة التي تحكم البلد منذ أكثر من نصف قرن، إنما تحكمه بطريقة عشوائية، لا تستند إلى أية أصول أو أية مبادئ أخلاقية في طرق الإدارة وأساليب الحكم، ولا تعرف سوى العنف المفرط في مواجهة أي حركة احتجاجية شعبية كما حصل في بداية ثمانينيات القرن الماضي – "مجازر حماة ومجازر سجن تدمر ومجزرة حي المشارقة بحلب ومجزرة جسر الشغور وغير ذلك من المجازر".
وبما أنَّ عصابة الحكم الأسدية لم تواجه أية عقوبات جدية من قبل مؤسسات المجتمع الدولي المعنية بحقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ولم تواجه أي شكل من أشكال الردع الحقيقي فقد تمادت في طغيانها، واستمرأت سلوكها العنفي البعيد عن أيِّ مبدأ أخلاقيِّ.
ربما كان من شأن موقف دولي جاد حيال ما ارتكبه النظام من مجازر أن يدفعه للتفكير قليلا قبل أن يقدم على تنفيذ محارقه بحق السوريين، إلا أن اطمئنانه على ما يبدو إلى عدم العقاب والنجاة من تبعات جرائمه منذ أيام حماة وحتى اللحظة الراهنة، إضافة إلى الدعم شبه المطلق من حليفيه الروسي والإيراني، هذا الواقع ربما غير المسبوق في العلاقات الدولية شجع العصابة الأسدية على استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري غير مرة وفي عدَّة أمكنة، وقد اتضح بعد تنفيذه جرائم استخدام السلاح الكيماوي أن هذا النظام هو بالفعل في مأمن من أية عقوبات جدية، لا بل إنَّه رأى في تساهل المجتمع الدولي بصمْتِه عن تلك الجرائم الضوء الأخضر للاستمرار في نهجه الإجرامي، والإصرار على إهانة السوريين وإذلالهم.
ربما كان من شأن موقف دولي جاد حيال ما ارتكبه النظام من مجازر أن يدفعه للتفكير قليلا قبل أن يقدم على تنفيذ محارقه بحق السوريين
وبالعودة إلى مرسوم العفو الذي أصدره رأس النظام مؤخرا وبالنظر إلى دلالات توقيته، يكاد يجمع خبراء القانون والمحللون وحتى الأشخاص العاديون على أن التوقيت مرتبط ارتباطاً مباشراً بمجزرة حي التضامن. وفي هذا السياق قال الخبير القانوني السوري عبد الناصر حوشان في حديثه لصحيفة القدس العربي اللندنية: "إن هدف النظام السوري الخبيث من إصدار المرسوم في هذا التوقيت بالذات هو التغطية على الضجة الكبيرة التي أحدثتها مجزرة حي التضامن، والتي تعتبر جريمة حرب تم تصويرها لحظة ارتكابها على يد أحد المتنفذين لدى النظام السوري المعروفين بسوء صيتهم" واعتبر حوشان "أن التعاطي مع المرسوم رقم 7، على أنه قانون عفو عام مقاربة خاطئة ومغالطة لا يجب تمريرها " عازياً السبب إلى أن قوانين العفو العام تكون شاملة وتكون مفصلة، بينما القانون رقم /7/ جاء بصيغة العموم ولم يفصل الجرائم والمواد المشمولة به" وأضاف حوشان، " أن القانون اتُّخذ بشكل عاجل بدليل أن محكمة الإرهاب تعثرت في عملها، فهي ليس لديها معلومات بموضوع المرسوم، بدليل البطء الواضح في تنفيذ عمليات تشميل الجرائم وإطلاق سراح المعتقلين" لا شك أن إطلاق سراح عشرات المعتقلين مؤخرا قد أنعش آمال ذوي المعتقلين والمغيبين قسرياً وهم قطاع واسع من السوريين، إلا أن المعطيات التي توفرت حتى الآن تقول إن معظم من أفرج عنهم حتى الآن هم من معتقلي التسويات الذين زُجُّوا في السجون في الفترة الممتدة منذ /2017/ وحتى الآن، ولم يتجاوز عددهم بضع مئات معظمهم من محافظتي درعا ودمشق. إضافة إلى أن من بينهم معتقلين أو محكومين بتهم جنائية، وفيما يتصل بمصير عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسريا الذين ثبت بالأدلة القاطعة أن النظام اعتقلهم منذ بداية الثورة، يقول أحد خبراء الأمم المتحدة في ندوة ناقشت وضع المعتقلين في سوريا: إن معظم هؤلاء قد تمت تصفيتهم بعد محاكمات صورية وفق ما يسمى بقانون الإرهاب الذي أصدره النظام في تموز عام /2012/ بعيد اندلاع شرارة الثورة ليغطي على جريمة تصفية آلاف السوريين الذين اعتقلهم بذريعة مكافحة الإرهاب واقتصرت تلك الاعتقالات كما بات معروفا على مكون الأكثرية في المجتمع السوري مما مهد الطريق حسب كثير من المراقبين لتنفيذ جريمة لا تقل خطورة عن جرائم الاعتقال والتغييب القسري وجرائم القتل بوساطة السلاح الكيماوي والصواريخ والبراميل المتفجرة والتهجير داخل وخارج سوريا، تمثلت في جريمة التغيير الديمغرافي التي طالت العديد من المناطق ذات الغالبية السنية لا سيما في شرق سوريا التي أصبحت في معظمها تحت سيطرة الميليشيات الإيرانية.
كان يفترض أن يكون عنوان هذا المقال "النظام يلمع وجهه أو شكله أو أي شيء آخر يمكن تلميعه"، لكنَّ تاريخ هذا النظام الإجرامي أثبت لكلِّ العالم أنَّه لا يمتلك شيئًا قابلًا للتلميع
في الخاتمة:
كان يفترض أن يكون عنوان هذا المقال "النظام يلمع وجهه أو شكله أو أي شيء آخر يمكن تلميعه"، لكنَّ تاريخ هذا النظام الإجرامي أثبت لكلِّ العالم أنَّه لا يمتلك شيئًا قابلًا للتلميع، فهو عورة صرف، وسوءة خالصة، وليس لديه ما يلمعه غير ذلك، حتى لو أصدر عشرات مراسيم العفو.