تقرير الغارديان عن مذبحة حيِّ التضامن مفجع، تشيب له الولدان وتحار أمامه العقول، وترتبك الأقلام. تقرير - ولندع جانبًا الغضب والحزن الهائلين اللذين سببهما لكلِّ ذي خلق – يعيدنا مجددًا إلى لحظات الثورة الأولى بعد أنْ كادت الهموم اليوميَّة تبتلعنا، ويعيدنا إلى مجالات التفكير بالأسئلة الكبرى والصغرى التي كانت مطروحة أمام كلِّ سوريٍّ منذ أعوام خلت.
السؤال الأهمُّ مرتبط بالمذبحة مباشرة، ويتعلق بالمجرم والضحايا وطبيعة الجريمة: من هو هذا المجرم المسمَّى أمجد يوسف؟ أين تربَّى؟ على يد من تتلمذ؟ ما العلوم التي تلقَّاها؟ كيف تمكن من الحصول على هذا المقدار من الهمجيَّة؟ كيف استطاع أن يترقَّى بوحشيته إلى هذا المستوى من الفظاعة؟ كيف أمكنه وهو شاب في مقتبل العمر يُفتَرض أن يكون شغله الشاغل الحبّ والموسيقا والجمال أنْ يذهب إلى التلذذ بالقتل وسفك الدماء؟ أيمكن للأجوبة المباشرة عن هذه الأسئلة أنْ توضِّح لنا شيئًا؟
ماذا عن الضحايا؟ كيف انتقى المجرم ضحاياه هؤلاء؟ ولماذا اختارهم هم بالذات؟
الطيارون المجرمون الذين يرمون البراميل من السماء العالية، فيدمرون البيوت ويقتلون المئات لا يرون ضحاياهم، ولا يسمعون أصوات استغاثاتهم، ورماة المدفعية أو راجمات الصواريخ لا يرون آثار جرائمهم بأعينهم، وإن كانوا يتوقعونها، ويرونها على شاشات التلفزيون، أما هذا المخلوق فيُفتَرَضُ أنَّه كان يسمع استغاثات الضحايا وأنينهم، لكنَّه يُصِمُّ أذنيه، ويُفْتَرض أنَّه يرى نتاج ما تقترف يداه، لكنَّه بلا بصر ولا بصيرة، فقد وصل إلى حدود من الشذوذ والساديَّة القصوى، يندر أنْ يَصل إليهما واحدٌ من بني آدم.
جريمة بهذا الحجم وهذا المكان لا يمكن أنْ يُنَفذَّها اثنان من ذوي الرتب الصغيرة فقط، ثمَّة ضباط قتلة من رتب أعلى أصدروا الأوامر
لكنَّ هذا الوحش لم يكن وحده - لذلك ليس لاسمه أمجد يوسف أيُّ معنى - فقد أظهرت عدسة الكاميرا معه وحشًا آخر، لا يعنينا أمره أيضًا، فالمهم بالنسبة إلينا هو الظاهرة لا الأشخاص، كما لا تعنينا مؤقتًا أسماء الوحوش الآخرين الذين سمعت أصوات بعضهم في الفيديو، والذين كان لكل واحد منهم دور ما، فجريمة بهذا الحجم وهذا المكان لا يمكن أنْ يُنَفذَّها اثنان من ذوي الرتب الصغيرة فقط، ثمَّة ضباط قتلة من رتب أعلى أصدروا الأوامر، ولا يستبعد أن يكونوا في مكان مطلٍّ على المشهد؛ يحتسون نخب النصر على أشلاء الأبرياء. لكنَّ الجميع في نهاية الأمر هم أمجد يوسف، هم بشار الأسد.
لا أعتقد أنَّ لدى علماء النفس أو علماء الاجتماع أو علماء السياسة أو حتى علماء الشؤون العسكريَّة والحربيَّة أيَّ تفسير مقنع يمكن أن يشرح لنا ما رأيناه في هذا الفيديو، ويبدو أن سوريا في عشر سنواتها الأخيرة لن تكون ميدانا لتجريب الأسلحة الروسيَّة فقط، بل ستكون ميدانًا لاختبار وتجريب كثير من النظريات في علم النفس والاجتماع وغيرهما.
وفي الإجابة عن سؤال ما الذي أوصل هذا الأنموذج الإجراميّ إلى هذا المقدار من السادية والوحشيَّة يأتينا الجواب السياسي الكلاسيكي المعروف: إنَّه أولًا الشحن العنفي بكلِّ أشكاله الذي لم يتوقف النظام عن ممارسته ساعة واحدة منذ بدأت الثورة، وإنَّه ثانيًا عجز القوى الثائرة عن إيصال رسائل الطمأنة إلى المتوجسين من داعشيتها؟ وبطبيعة الحال فكلا السببين ممكنان، ومع ذلك يبقى المرء عاجزًا عن الفهم، وكأننا بحاجة إلى دراسات غير مسبوقة وغير معهودة كي تفسِّر لنا وللأجيال القادمة ما جرى.
لقد كان لصحيفة الغارديان دور مهمٌّ في تفاعل الناس مع هذه المجزرة محليًّا ودوليًّا، ومع ذلك فهي ليست فريدة من نوعها فقد ارتكب نظام الأسرة الأسديَّة مجازرَ ومجَازر بحقِّ السوريين لم تبدأ بمجزرة حماة، ولن تنتهي بالمجزرة المكتشفة حديثًا، فالسوريون لم ينسوا عشرات المذابح التي لا يمكن تشبيهها بغير الهولوكست، ولم ينسوا ردود الأفعال الدوليَّة الباهتة التي لم تتعدَّ الشجب والتنديد والاستنكار والاستهجان إلى آخره. لكن لماذا يصرُّ العالم على التزام هذا النمط من ردود الأفعال؟ لماذا يكتفي بتكرار الكلام الفارغ الذي ما انفكَّ يردده؟ لماذا لا يقدم للسوريين ولو جزءًا صغيرًا ممَّا قدمه للأوكرانيين؟
لا يمكن للعالم الحرِّ أنْ يترك هؤلاء السفاحين يمارسون هذا المقدار الفظيع من الإجرام دون رادع، وقد لا يكون ظهور تقرير الغارديان مصادفةً
قد يظنُّ بعضُ السوريين أنَّ هذه المشاهد لا تصل إلى أنظار أصحاب القرار، وأنَّ بعض المسؤولين في المكاتب الصحفيَّة لدى رؤساء الدول المؤثرة ووزراء خارجيَّتهم سينظرون بلا مبالاة إلى تقرير الغارديان، ثمَّ يرمونه خلف ظهورهم، وظَنُّ بعض السوريين هذا ليس صحيحًا، فليس من عادة هؤلاء الناس أنْ يهملوا شيئًا أو ينسوه، لكنَّ هذا لا يعني أنْ تكون ردود أفعالهم متناسبة مع رغباتنا وآمالنا، فردود فعل معظم الساسة الغربيين تجاه هذه الأعمال الوحشيَّة تبقى محكومة بموازين المصالح السياسيَّة لبلدانهم أولًا وأخيرًا.
ومع ذلك لا يمكن للعالم الحرِّ أنْ يترك هؤلاء السفاحين يمارسون هذا المقدار الفظيع من الإجرام دون رادع، وقد لا يكون ظهور تقرير الغارديان مصادفةً، وحتى تحين تلك اللحظة – وهي آتية دون شك – يجب أنْ يفعل السوريون شيئًا؛ يجب أن يفعلوا شيئًا جوهريًا، يبدأ – باختصار شديد - من التخلي عن الأوهام الكثيرة التي رافقت ثورتهم، يجب أن يتخلوا عن وهمٍ يُختزل بشعار ردَّده المتظاهرون ذات يوم إبان الانتداب الفرنسي في أثناء حكم ديغول: ((ديغول خبِّر دولتك === باريس مربط خيلنا))، فلن تشرب خيولنا من مياه نهر السين، ولن يبني مجاهدونا إمارة ينتشر فيها عدل الإسلام أكثر من إمارتهم التعسة والمؤقتة في إدلب الغرَّاء، ولن يستطيعوا تحرير القدس ولا غيرها، يجب ألا يتعدَّى حلمهم مسألة التخلص من نظام آل الأسد وبناء دواة المواطنة الديموقراطية في سوريا، وعدا عن ذلك فلن يجدوا أذنًا مصغية لاستنجاداتهم واستغاثاتهم. يجب على السوريين أن يعملوا من أجل هذه الفكرة فقط، ويركزوا جميع جهودهم لتحقيقها، وما عدا ذلك فهو كلام بلا قيمة.
وفي الختام ينبغي على القادة العرب المهرولين لإعادة نظام الأسد إلى كرسيه في الجامعة العربيَّة أن ينتبهوا إلى أنَّ للعالم الحرِّ رأيًا آخر، تقوله الغارديان، وأنَّ هذا الرأي لم يهبط فجأة من السماء، وليس مصادفة، فالتاريخ علمنا أنَّ الإنكليز لا يحبون المصادفات، ولا يعتمدونها في رسم سياساتهم. أتمنى أنْ يشاهد القادة العرب هذا التقرير وأن يخجلوا قليلًا – إن لم يكونوا يريدون أنْ يفهموا - ويكفوا عمَّا هم عازمون عليه من اكتساب المزيد من العار.