ألقى زحف القوات الأميركية نحو منطقة الشرق الأوسط بالتزامن مع حرب غزة ظلالا من الشك حول مقولة العزوف الأميركي عن الانخراط في حروب جديدة، وأصبح البعض يعتقد أن الحرب قادمة لا محالة، لكن أميركا المرتبكة – كما أسماها أستاذ العلاقات الدولية الأميركي "جون ميرشايمر" - ما لبثت أن كشفت عن ضعفها وترددها، فرغم أنها أعلنت سلفا أن قواتها الذاهبة إلى منطقة الشرق الأوسط مهمتها الردع، إلا أنها ما لبثت أن مزجت التهديد بالاستجداء والمساومة، وهنا بيت القصيد.
عندما تكون النتائج مضمونة فالنظام السوري مستعد للمساومة على كل شيء، ولكن المساومة ليست متاحة في أي وقت، أما اليوم فقد خلقت حرب غزة بيئة خصبة لما يمكن أن نسميه بدبلوماسية المساومة، ورغم أن الأخبار التي تتحدث عن عقد صفقات أو مساومات تخص الملف السوري لم ترشح بعد؛ إلا أن الموقف الذي اتخذه النظام السوري من حرب غزة، والذي اتسم بالسكون أو النأي بالنفس يشير لاستعداده لعقد الصفقات، أو للدعوة لذلك كحد أدنى.
من ناحية ثانية؛ يمكن لمن يراقب سلوك النظام في الآونة الأخيرة أن يلاحظ بعض الإجراءات والتصريحات التي تثير الشك والريبة، كالحديث عن نية بتغيير شكل الجيش وطبيعته مثلا، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا في إطار المغازلة لجهة ما تنتظر بعض الإجراءات المندرجة تحت مسمى "إصلاحات". ومؤخرا؛ قام النظام السوري بتعيين أيمن سوسان سفيرا له في المملكة العربية السعودية، بعد 11 عاما من قطع العلاقات بين البلدين، وهي الخطوة التي كانت متعثرة حتى الأمس القريب.
النظام السوري خارج إطار كل مساومة، وأنه غير مؤهل لأي محاولة تدوير أو تعويم. وإما هي ممارسة نوع من الضغوط لكي يصبح النظام السوري أكثر مرونة فيما يعرضه أو فيما يعرض عليه في معمعة الصفقات والمساومات
بعد ذلك، باتجاه معاكس، وبشكل مفاجئ، تفرض كل من الولايات المتحدة وبريطانيا حزمة من العقوبات شملت أفرادا في حكومة النظام السوري بينهم وزراء وضباط كبار في الجيش. وهذه الخطوة يمكن أن تفسر باتجاهين؛ فهي إما تعني أن النظام السوري خارج إطار كل مساومة، وأنه غير مؤهل لأي محاولة تدوير أو تعويم. وإما هي ممارسة نوع من الضغوط لكي يصبح النظام السوري أكثر مرونة فيما يعرضه أو فيما يعرض عليه في معمعة الصفقات والمساومات.
مع افتراض أن السياق هو سياق مساومة، لا بد من التأكيد أن كل من يعرف طبيعة النظام السوري يعلم أنه مستعد للمساومة والتضحية حتى بعلاقته بروسيا وإيران إن كان الثمن بقائه في الحكم؛ شرط أن تكون النتائج مضمونة. وبغض النظر عن استعداد النظام للغدر بأقرب المقربين في سبيل البقاء في السلطة؛ يعد تقويض النفوذ الروسي والإيراني في سوريا أمنية حقيقية بالنسبة له، فقد أصبح أسيرا عند هاتين الدولتين (الحليفتين) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، لكن هذا الأمر يبدو أنه أقرب إلى المستحيل، وذلك لغياب القوة القادرة على تنفيذه.
المشكلة أن المساومة – إن وجدت – سوف تكون حول الميليشيات الإيرانية المتواجدة في سوريا، فالمطلب الدولي من النظام السوري المتمثل بفك ارتباطه بإيران، وهو مطلب قديم متجدد، ولعله كان في يوم من الأيام المطلب الوحيد مقابل إخراج النظام من مأزقه، لكن هذا المطلب إن كان سابقا في متناول اليد لم يعد اليوم كذلك، فإيران التي تغلغلت في كافة مؤسسات السلطة، وبعد أن أصبحت تسيطر على مساحات شاسعة من الأرض السورية عبر ميليشياتها؛ باتت هي الجهة القادرة على المساومة على وجود النظام، بينما هو فقد أي مقدرة على ذلك.
كرست حرب غزة بيئة عدم اليقين التي تميز العلاقات الدولية وجعلتها أكثر ضبابية، من هنا لا يُلام المحللون السياسيون إن اضطربت أقوالهم وأخطأت تقديراتهم
إذن، قد يكون النظام السوري عاجزا وغير مؤهل لعقد صفقات، وأغلب الظن أن هذا الأمر أصبح معروفا من قبل الجميع، فهل هذا يكفي لأن يكون عامل اطمئنان؟ الجواب: لا؛ لأن المفاوض البديل هو إيران، وإيران إذ تعتبر النظام السوري أحد أهم حلفائها، أو أتباعها؛ لن تتوانى لحظة عن حشر مصير النظام السوري في أية مساومة، فهي كانت ومازالت مصممة على فك عزلته وإعادة تعويمه من جديد. ولكن، هل تستطيع إيران أن تفرض كل ما تريد؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عليه، إذ تفترض معرفة دقيقة بحجم قوتها وبحجم معاناتها، والأمر ذاته ينطبق على الطرف الآخر.
في الواقع؛ كرست حرب غزة بيئة عدم اليقين التي تميز العلاقات الدولية وجعلتها أكثر ضبابية، من هنا لا يُلام المحللون السياسيون إن اضطربت أقوالهم وأخطأت تقديراتهم، ففي أثناء الحروب والأزمات يكثر التضليل وتنشط حملات الحرب النفسية، وبهذا تصبح معظم الأخبار والتصريحات غير دقيقة المدلول، فقد يكون ما يجري من مفاوضات، أو ما يجري من حراك دبلوماسي مجرد استهلاك للوقت على اعتبار أن الرغبة الأميركية تتمثل بمحاصرة الحرب في غزة دون السماح لها بالتوسع.
لم تخلق حرب غزة بيئة مناسبة لعقد الصفقات والمساومات وحسب، وإنما خلقت الأجواء المناسبة لمثل هذا النوع من الدبلوماسية أيضا، فالصفقات والمساومات غالبا ما تحدث خلف الأبواب المغلقة بعيدا عن الأضواء، وهذا ما تكفلت به هذه الحرب من خلال احتكارها للتغطية الإعلامية. من هنا؛ فمراقبة الساحة، وإعداد العدة لإفشال محاولات الالتفاف على القرارات الدولية يجب ألا يغيب عن جدول أعمال المشتغلين بالشأن الثوري، فاحتمال اغتيال هذه القرارات في ظل العتمة الإعلامية، وفي ظل بيئة المساومات هو احتمال وارد.