icon
التغطية الحية

"المنصّة" السورية: انعكاس العقد النفسية على صراعات السلطة والنفوذ

2024.06.24 | 16:53 دمشق

آخر تحديث: 24.06.2024 | 18:49 دمشق

76667878
من فيلم المنصّة (The Platform)
+A
حجم الخط
-A

"العائلة الراقية" في المجتمع السوري مفهوم ملتبس، فكثيرا ما تتكرر عبارات من قبيل: "أنا من عائلة راقية- أمي من عائلة راقية- جدتي من عائلة راقية..." على ألسنة ضيوف البودكاست السوري.

يطرح هذا أمامنا أسئلة عدة حول ماهية "الرقيّ" الذي تطلقه بعض العائلات على نفسها، وأحياناً تمنحه سلطات الفساد لبعضهم الآخر. وهل هي صفة أصيلة أو وهمٌ مُتوارث؟

بين المشيخة والعائلة: صراع الهوية في ظل الاستبداد

في برنامج كان يقدمه الإعلامي أيمن عبد النور على "الكلوب هاوس"؛ التطبيق الذي عاش مرحلته الذهبية خلال حظر جائحة كورونا، كان عبد النور يفضل أن يعرف ضيوفه بانتسابهم إلى عائلات راقية. يتكرر المصطلح أيضا في البرامج الحوارية والبودكاست جوابا على سؤال التعريف النمطي. الفنان جمال سليمان على سبيل المثال، وعبر أكثر من برنامج ولقاء، كان يكرر القول إن والدته تنحدر من عائلة دمشقية "عريقة".

ومقابل ادّعاء معظم الشخصيات أنها تنتمي لعائلات "راقية" من كبرى المدن السورية، هناك من يدعي الانتماء لعائلات مشايخ ووجهاء القبائل والعشائر في المناطق التي تسودها المجتمعات القبلية. لنجد أن مفهوم العائلة "الراقية" يوازي عائلة "المشيخة".

لا شك في أن أبناء القبائل يدركون جيدا الفرق بين بيوت المشيخة الطبيعية، وبين قطاع الطرق الذين نصّبتهم السلطة كوجهاء لدى بعض القبائل وأفخاذها. والأمر ذاته يمكن أن ينطبق أيضا على جماعة العائلة الراقية.

إذا ما نقّبنا في "مرايا" ياسر العظمة فسنجد العديد من اللوحات التي تحاول أن تثبت فرضية "همجية المجتمع السوري غير الملتزم بالطابور" كما أن شخصية "أبو الهنا" التي لعب دورها دريد لحام بذلت جهودا جبارة لإثبات هذه الفرضية أيضا

فالمشيخة الطبيعية (مشيخة النَّسَب) لم تنقرض، وما تزال هناك عائلات تمثلها، والقبيلة كيان متناغم مع الطبيعة كما أوردنا في مقال نُشر سابقا على موقع تلفزيون سوريا بعنوان: "فلسفة القبيلة بين الاستبداد والفوضى". هذا النوع من المشيخة ينبع من رحم المجتمعات القبلية، وهو عملية انتخاب طبيعي -بيولوجي- لقيادات اجتماعية لها أثر فعّال في المجتمع القبلي، لكن السلطات غير الطبيعية/ غير الشرعية تحاول التضييق على كل ما هو طبيعي وشرعي (وفق أعراف القبيلة)، ولذلك تزرع المنافسين من وجهاء ومخاتير ومشايخ صوريين من خلال ترشيحات "مجلس الشعب" أو اتباع سياسة "الولاء" لمراكز القوى الأمنية، و"البراء" من كل ممثل لشرعية اجتماعية. هذه التدخلات السافرة في عوائل المشيخة التقليدية جعل من القبيلة كيانا للتدجين، يشبه منظمات "الشبيبة" و"طلائع البعث" والنقابات المهنية.

"العائلات الراقية".. صناعة السلطة أم إرث تاريخي؟

تُظهر خريطة نفوذ العائلات حالات من الصعود والهبوط بعد كل عملية تغيير سياسي، فبينما تتلاشى بعضها تتألق أخرى. تُطبّق هذه القاعدة على مشايخ القبائل أيضا، إذ يتعاظم دور بعضهم ويصبحون مركزا للقوة تحت راية السلطات الجديدة، في حين يفقد آخرون نفوذهم المكتسب تحت راية السلطة القديمة.

يذكرنا ذلك بتصريح لأحد أبناء المشايخ بأنّه لا يعترف بمشيخة إلاّ إذا كانت تحمل ختما عثمانيا، ويعتبر حاملي الأختام الفرنسية وما تلاها من حكومات وأنظمة، بما في ذلك نظام الأسد، مشيخات وظيفية وعميلة.

من الواضح أنّ صاحب هذه المقولة يُحاول إثبات صحة مشيخته ونفيها عن البقية، وهو بذلك يثبت فرضية أنّ العوائل البارزة ومشيخات القبائل ناتجة غالبا من تحالف مع السلطة، من دون النظر إلى شرعيتها.

"المنصّة": تجسيد واقعي للصراع الطبقي

 "هناك ثلاثة أنواع من الناس: مَنْ هم في الأعلى، ومَنْ هم في الأسفل، ومَنْ يسقطون". بهذا التصنيف الطبقي الواضح الدلالة يبدأ فيلم "المنصّة" (The Platform)، الذي يُظهر سجنا رأسيا غريبا شبيها بالحفرة يتكون من مستويات مختلفة. كل مستوى يمثل طبقة اجتماعية، وكلما انخفض المستوى، قلّ الطعام المتوفر، لتبدأ فصول الصراع الطبقي على الموارد "لقمة الطعام".

يذكرنا فيلم "المنصّة/ الحفرة" بتصريحات نارية للسياسي السوري المعارض "سمير نشار"، زعم فيها أن الصراع الطبقي للعائلات في المدينة يسهم بصعود تلك العائلات ونزولها وفقا لما تحققه من مكاسب مادية، وهذا الصراع -بحسب رأيه- هو أساس تطور المجتمع.

بالعودة إلى الفيلم، يظهر البطل "غورينغ"، المثقّف الحالم، في يومه الأول داخل الزنزانة مخاطبا "رفاق السجن":

  • "مهلا! يا رفاق- في الأسفل- هل تسمعونني؟".
  • "لا تنادِ على أولئك في الأسفل". يجيبه شريك الزنزانة "تريماغاسي".
  • "لماذا؟"
  • "لأنهم في الأسفل".

يتابع المثقف الحالم محاولة الكلام مع من هم في الأعلى، ليقاطعه تريماغاسي مجددا:

  • "أولئك في الأعلى لن يردّوا عليك".
  • "لماذا؟".
  • "لأنهم في الأعلى"!

يبدأ غورينغ بطرح الأسئلة على تريماغاسي، ولكن الأخير الذي يمثل المصالح الطبقية المادية -وفق توصيف المعارض نشّار- يقول له: "الحديث يُرهقني، وخاصةً عندما أقدم معلومات أكثر مما أحصل عليها".

يقصد بذلك أن يقتصر الحديث مع من هم في نفس الطبقة الاجتماعية، والعلاقة بينهم مصلحية: "لن أقدم لك أي شيء إلا بالقدر الذي تعطيني". إنها صورة واضحة للمادية بأقسى أشكالها.

"العائلة الراقية" منصّة زمن الاستبداد

من طرائف الفيلم أن السجناء يسألون عن وجباتهم المفضلة قبل دخول الزنازين، وكأنّهم يدخلون مطعما فخما لا سجنا حقيرا.

في الطابق الأعلى، تنتشر تجهيزات معقدة، فتعدّ الوجبات بدقة متناهية، لدرجة أن وجود شعرة واحدة في الطعام تعد كارثة، يستحق صاحبها أشدّ العقوبات. ولكن، ما إنْ يخرج الطعام من يد السلطة ويبدأ نزوله إلى زنازين الحفرة بالترتيب من الأعلى إلى الأسفل، تتخلى السلطة عن وظيفة الإشراف على التوزيع العادل بين طبقات الحفرة، لتتحول الوجبات الملكية المعدة وفق رغبات السجناء إلى مسرح لتصفية الأحقاد الطبقية، فمن هم في الأعلى يتبولون على أطعمة من هم في الأسفل.

في محاولة ثورية لاختبار فرضية السلطة القائمة على "أن الطعام يكفي جميع نزلاء الحفرة، والمشكلة تكمن في همجيتهم"؛ قرّر المثقّف الحالم غورينغ بدعم من شريكة زنزانته، صعود طاولة الطعام والنزول معها، واستخدم القوة لمنع الطبقات العليا من الوصول للطعام. يبدأ توزيع الطعام من الطابق الخمسين، ليتفاجأ غورينغ أن عدد السجناء وعدد طوابق الحفرة كبير جدا وبأن الطعام لا يكفي.

يُذكّرنا هذا المشهد بمدرسي مادة التربية القومية الذين اعتادوا تكرار عبارات تأنيب المواطنين لعدم وقوفهم بانتظام في طوابير الخبز والمحروقات و"بونات التموين"، ومدح الغرب المتمدن لالتزامه بالأنظمة والقوانين، وكأن مشكلتنا تكمن في همجية المجتمع مقابل رقي السلطة! يأتي فيلم الحفرة ليبين أن الصورة المزركشة للنظام تخفي وراءها فكرة التهرب من الإشراف على التوزيع لإلقاء اللوم على السجناء الهمجيين (تقابلها فكرة أستاذ القومية بأن الشعب السوري غير ملتزم بالدور).

وإذا ما نقّبنا في "مرايا" ياسر العظمة فسنجد العديد من اللوحات التي تحاول أن تثبت فرضية "همجية المجتمع غير الملتزم بالدور". كما أن شخصية "أبو الهنا" التي لعب دورها دريد لحام بذلت جهوداً جبارة لإثبات هذه الفرضية أيضا.

في خضمّ هذه التناقضات، تبرز "العائلة الراقية" كمفهوم ملتبس. فبينما تُستخدم للفخر، تُشكل في حقيقتها تعبيرا عن طبقية اجتماعية تُرسّخُها النظم الاستبدادية وتُعزّزها من خلال الاستثمار الأمثل للمشكلات النفسية للطامحين من الفئات المسحوقة عبر إدخالهم في مارثون الفساد والتلاعب بـ"بمُؤسسات الدولة".