شهدت محافظة إدلب منذ اتفاق وقف إطلاق النار في آذار من العام الفائت 2020 حالة استقرار نسبي في العمليات العسكرية، بعد عام كامل من المواجهات العسكرية بين فصائل المعارضة السورية وقوات نظام الأسد وحلفاؤه على طول خطوط التماس من ريف اللاذقية الشمالي حتى ريف حلب الغربي، مروراً بريفي حماة الشمالي وإدلب الشرقي.
الفصائل العسكرية التي كانت حينها قد خرجت حديثاً من اقتتال داخلي، حاولت ضمن الإمكانيات المتاحة الدفاع عن المنطقة، لكن كل هذه الجهود التي كان أبرزها تشكيل "غرفة عمليات الفتح المبين"، فشلت في إيقاف تقدم النظام الذي اتخذ وحلفاؤه كعادتهم سياسة الأرض المحروقة وتكثيف العمل بالطائرات الحربية والمروحية والطائرات بدون طيار والسيل الناري بالصواريخ وقذائف المدفعية.
وتعرضت الفصائل العسكرية وخاصة هيئة تحرير الشام التي قالت إنها خسرت مئات المقاتلين خلال العامين الماضيين، لانتقادات من ناشطين وخبراء عسكريين، بأنها لم ترم بكامل ثقلها العسكري في معارك التصدي الأخيرة.
أهداف المجلس العسكري في إدلب وقوامه
على مدار الأعوام الماضية، زادت وتيرة التجاذبات الفصائلية في إدلب، وخضعت لحالة من الشراكة تحت ظروف قاسية جداً خلال عملها في غرفة عمليات واحدة، الأمر الذي دفع بكبرى الفصائل العاملة في محافظة إدلب إلى رفع مستوى العمل التنظيمي والإداري والعسكري عبر تشكيل المجلس العسكري لمحافظة إدلب بطريقة تشاركية، وذلك بين كل من فيلق الشام الذي يمثله في قيادة المجلس "محمد حوران"، وحركة أحرار الشام الإسلامية التي يمثلها النقيب "أبو المنذر"، وهيئة تحرير الشام التي يمثلها المدعو "أبو حسن 600".
اقرأ أيضاً: خلافات "أحرار الشام" تعزز أصوات "تحرير الشام" في المجلس العسكري
وبدأ الإعداد لتشكيل المجلس العسكري منتصف أكتوبر/ تشرين الأول من العام الفائت، عبر فصل المحاور العسكرية إلى قطاعات مستقلة، كل قطاع مؤلف من عدة ألوية، وكل لواء مقسم إلى عدة كتائب وسرايا وفق الاختصاصات العسكرية والاستخدامات اللوجستية لمتطلبات كل عمل عسكري، ولم ينته المجلس من إعداد المراحل الأولية لفصل القطاعات كونه اشترط إعادة تدريب المقاتلين والكوادر العسكرية وإخضاعهم لدورات عسكرية اختصاصية يتم فيها قبول الناجحين بتلك المعسكرات وإعادة تدريب الراسبين وتمكينهم من العمل العسكري بكفاءة عالية.
اقرأ أيضاً: فصائل المعارضة تستثمر وقف إطلاق النار بإقامة معسكرات التدريب
حاول موقع تلفزيون سوريا التواصل مع الفصائل الثلاث المُشكِّلة للمجلس، لمعرفة مجريات العمل ضمنه وقوامه من المقاتلين والعتاد وأبرز أهدافه، وهل سيحقق آمال آلاف النازحين في العودة إلى قراهم؟
تواصل مراسل موقع تلفزيون سوريا مع النقيب "ناجي مصطفى" الناطق الرسمي باسم الجبهة الوطنية للتحرير والتي تضم معظم فصائل المجلس إلا أن النقيب اعتذر عن تقديم الإجابات في الوقت الحالي.
في حين أفاد "أبو خالد الشامي" المتحدث العسكري باسم هيئة تحرير الشام لموقع تلفزيون سوريا قائلاً: "المجلس العسكري هو تطوير للمنظومة العسكرية في محافظة إدلب، وجاء بالتوازي مع المرحلة الراهنة ومتطلباتها خاصة في ظل تطوير العدو لتكتيكاته وأساليبه العسكرية".
أما عن الأهداف المعقودة على المجلس فقال الشامي: "إن تشكيل هذا المجلس يهدف إلى مواجهة أي عدوان قد يشنه المحتل الروسي وميليشياته على المناطق المحررة بهدف الحفاظ على مقدرات ومكتسبات ثورة الكرامة"، دون الإشارة في حديثه إلى أي نية للمبادرة بفتح الجبهات واستعادة ما خسرته فصائل "الفتح المبين" من أرياف حماه وإدلب وحلب خلال العام الفائت.
اقرأ أيضاً: جسم عسكري وتمثيل سياسي لفصائل إدلب.. هل ستُحل عقدة تحرير الشام؟
هيكلية المجلس العسكري في إدلب
أما عن نسبة مشاركة كل فصيل، فلم يحصل موقع تلفزيون سوريا على معلومات دقيقة من الفصائل المنضوية ضمن المجلس، إلا أن بعض المصادر المقربة من المجلس أفادت بأن "الخطة تتلخص بتشكيل 10 ألوية من تحرير الشام و10 ألوية من فصيل فيلق الشام و5 ألوية من حركة أحرار الشام ولواء من جيش الأحرار ولواء من فصيل صقور الشام، إضافة إلى ألوية أخرى مشكلة من مجموعات من فصيل جيش العزة وبعض الكتائب المستقلة"، ومن المقرر أن يتكون كل لواء من 600 عنصر، موزعين على النحو الآتي: 100 قوات خاصة نخبة و200 قوات مشاة، و300 صنوف عسكرية باختصاصات المدفعية والقنص ومضادات الدروع والهندسة والتحصين والمضادات الجوية والاستطلاع.
في هذه الأثناء تنتظر أنقرة أن تنتهي الفصائل من تشكيل المجلس حتى "تدعمه لوجستياً".
هدف ثانوي مهم
الآلية التي يُبنى عليها المجلس العسكري في إدلب لا تصهر جميع الفصائل في فصيل واحد، لكنها تحد من الانقسامات الفصائلية وتخفف من النزاعات المبنية على أساس الولاءات للأشخاص والمناطق، بحسب ما أكده قائد مجموعة عسكرية منضوية في المجلس لموقع تلفزيون سوريا.
ومن وجهة نظر قائد المجموعة فإن المجلس ينهي كيانات بعض قادة المجموعات والذين يمكن وصفهم بـ "أمراء الحرب"، فالمجلس قام بتفكيك الألوية ضمن الفصائل المنضوية تحته وتوزيع مقاتليها في مجموعات أخرى بحسب الصنوف العسكرية التي ينتمون إليها، وبذلك كسبت قيادة المجلس تفريق القادة عن مجموعاتهم والتي كانت لها بعض المساوئ من ناحية قيام كيانات عسكرية، لها ولاءات خاصة ضمن الفصائل.
هل تحاول هيئة تحرير الشام استغلال المجلس لمكاسب خاصة؟
أفادت مصادر عسكرية خاصة لموقع تلفزيون سوريا بأنّ قيادة المجلس العسكري لمحافظة إدلب لن تقبل بوصول الدعم المادي واللوجستي والعسكري إلى كل فصيل على حدة، واشترطت وصول الدعم إلى قيادة المجلس العسكري وتوزيعه بالتساوي على القطاعات العسكرية التابعة له، مما يحقق توزيعاً عادلاً للدعم على جميع تشكيلات المجلس والذي سينعكس إيجاباً على الأداء القتالي.
محللون رأوا في هذه الخطوة استغلالاً من قبل هيئة تحرير الشام التي تسعى إلى تمييع طرق وصول الدعم إليها، وشرعنة دعمها من قبل الدول الداعمة للمجلس العسكري في إدلب وعلى وجه الخصوص "تركيا"، لكون تحرير الشام مصنفة ضمن لوائح الإرهاب ويحظر نشاطها أو دعمها في العديد من دول العالم.
وفي الطرف المقابل اعتبر متابعون للأوضاع العسكرية في إدلب بأن تشكيل المجلس هو رغبة تركية لدمج جميع الفصائل العسكرية في إدلب تحت مظلة واحدة والتخلص من تصنيف الفصائل ما بين معتدلة وغير معتدلة، فضلاً عن نقضهم للتحليلات الأولى التي تتبنى فكرة أن يكون المجلس محاولة من هيئة تحرير الشام للالتفاف حول تصنيفها على قوائم الإرهاب والحصول على الدعم اللوجستي والعسكري، معتبرين أن هذه خطة تركيا لتطعيم الهيئة بفصائل من الجيش الحر وتجنب أن يكون قرار السلم والحرب بيدها فقط.
وبحسب رؤية فراس فحام الباحث في مركز جسور للدراسات، فإن التصورات بشأن هذا المجلس مختلفة، وأشار إلى أن "الجبهة الوطنية للتحرير تريد من هذا المجلس الجديد أن يكون غرفة عمليات للتنسيق بهدف الدفاع عن المناطق المتبقية تحت سيطرتها"، أما هيئة تحرير الشام فتهدف من خلال هذا التشكيل الجديد إلى "السيطرة على القرار العسكري في محافظة إدلب وجعلها تحت قيادتها"، ويوضح الباحث فحام أن الهيئة تعمل على "رئاسة" هذا المجلس في حين تكون باقي الفصائل أعضاءً تحت إمرتها.
آمال معقودة
من جانبه قال الناشط الإعلامي "محمد العلي" لموقع تلفزيون سوريا: إن "المجلس العسكري لقيادة الفصائل الثورية في محافظة إدلب والأرياف المجاورة لها، بات ضرورة ملحة ويجب أنّ تتظافر جهود الجميع في حماية ما تبقى من المناطق المحررة وإعادة دراسة الماضي والوقوف عند الأسباب التي أدت إلى خسارة نصف مساحة محافظة إدلب وأرياف حماة وحلب، والإعداد للدفاع عن المنطقة المحررة حيث لا تبعد اليوم أبعد نقطة آمنة في المناطق المحررة عن خطوط النار سوى 36 كم، مما يضع حياة 4 ملايين مدني تحت رحمة نيران قوات النظام والأسلحة قصيرة ومتوسطة المدى".
وأضاف العلي: "التشاركية الفصائلية في قيادة تشكيلات المجلس العسكري، وعدم السماح باستخدام ونقل الأسلحة من نقاطها وقطاعاتها إلا بقرار توافقي من قيادة المجلس العسكري، سيقلص من نفوذ أمراء الحرب وبالنتيجة عدم تكرار مسلسل الاقتتالات الداخلية التي عكست نتائج كارثية جداً فيما سبق".
وأبدى الصحفي "علي حاج سليمان" إعجابه بفكرة تشكيل المجلس العسكري والآلية التي يتبعها لتوزيع القطاعات معتبراً أنها الأفضل بالنسبة للوضع الراهن، فهي توكل مهمة الدفاع عن خطوط التماس إلى كل مجموعة ولا تسمح للعدو بتشتيت قوات الفصائل على الضغط على جبهة ما والالتفاف إلى أخرى".
لكن "حاج سليمان" اعتبر أن هدف المجلس الذي يقتصر على الدفاع عما تبقى من مناطق تحت نفوذ المعارضة يبدد آمال وأحلام أكثر من مليون ونصف المليان شخص هُجروا قسراً خلال الحملة العسكرية الأخيرة على إدلب.
وأضاف قائلاً: يجب ألا يكون هدف الفصائل حماية ما تبقى من مناطق محررة بل عليها العمل على استرجاع المناطق التي احتلها نظام الأسد وحلفاؤه، وإعادة أهلها إليها.
مستقبل غرفة عمليات الفتح المبين
لا شكّ بأن المجلس العسكري سينهي العمل بغرفة عمليات الفتح المبين التي أسست على عجل خلال عمليات فصائل المعارضة السورية في صد هجمات نظام الأسد وحلفائه خلال عامي 2019 و2020، إذ عمل المجلس على تقسيم خطوط التماس إلى ستة قطاعات مستقلة منها قطاعان في ريفي حلب الجنوبي والغربي، وثلاثة قطاعات في محافظة إدلب، وقطاع في ريف حماة، وقطاع في ريف اللاذقية، ولكل قطاع قيادة مستقلة لإدارة العمليات العسكرية الخاصة بالمنطقة الجغرافية التي ينتشر بها، مستقلة كلياً من حيث عمل الكوادر البشرية والعتاد العسكري واللوجستي، الأمر الذي رأى من خلاله النقيب المنشق عن قوات نظام الأسد "مصطفى المحمد" خطوة إيجابية لتفادي العشوائية في فرز القوة العسكرية على الجبهات الساخنة، وتخصيص غرف عمليات محدودة لا تتأثر بتقدم أو انحسار مثيلاتها من الغرف في باقي المحاور، مرجعاً نجاح الخطوة التي جاءت في وقت متأخر بحد تعبيره إلى القيادة الموحدة لغرف عمليات القطاعات.
إلا أن "أبو خالد الشامي" المتحدث باسم هيئة تحرير الشام نفى نية الفصائل إنهاء العمل بغرفة عمليات "الفتح المبين" بعد إعلان تشكيل المجلس العسكري لإدلب، وقال الشامي: "لا تزال غرفة عمليات الفتح المبين هي القائمة على إدارة وتنظيم الأعمال العسكرية، إضافة إلى تأهيل الكوادر بمختلف الاختصاصات وتوزيعها على محاور القتال، وذلك بإشراف وتخطيط جميع فصائل الثورة متمثلة بغرفة العمليات القائمة حالياً".
واعتبر "الشامي" أن المجلس العسكري هو "خطوة متقدمة لغرفة عمليات الفتح المبين وتطوير للغرفة التي أبلت بلاءً حسناً خلال الحملة العسكرية الأخيرة، وأسهمت في تدارك مواطن الخلل ومنع سقوط المزيد من المناطق المحررة".
حتى اليوم لم تصدر أي بيانات رسمية عن المجلس العسكري أو تعيين متحدث باسمه، والرهان على نتائجه وقدرته على ضبط العمليات العسكرية لا يزال مبكراً، إلا أنّ الدعم المقدم من الحليف التركي للمجلس العسكري سيجبره بكل تأكيد على الالتزام بالقرارات التركية، ما يوحي بعدم نية المجلس للمبادرة في شن عمليات عسكرية جديدة، والاكتفاء بوضع الدفاع إلى جانب القوات التركية المنتشرة بمحاذاة خطوط التماس بين فصائل المعارضة السورية وقوات نظام الأسد.