تبرز معاناة القاصرين اللاجئين خاصة أولئك الذين وصلوا إلى أوروبا بمفردهم، كمثال صارخ على العقبات الجمّة التي تواجه هذه الفئة الضعيفة التي هربت من الحرب وصدماتها المتتالية وتبعاتها الكارثية، ووصلت الجنة المبتغاة، فيمزق الواقع الجديد خيوط الأمل الرفيعة المنسوجة عن أوروبا والمستقبل، ويلقون وابلاً من النظرات التنميطية على أنهم فئة سيئة السمعة، وينتهي حال الكثير منهم عند الحشيش أو الانغلاق التام أو الذوبان.
يتصدر هؤلاء القصّر عناوين الأخبار، لكن ليس دائمًا للأسباب الصحيحة، فقد رسمت لهم صورة أنهم مجموعة متمردة يجب تجنبها، مما يزيد من تعقيد محنتهم بدلاً من تقديم الدعم الذي يحتاجونه بشدة، بعد أن خاضوا رحلة لم تكن سوى معبر ضيق بين أحلام الطفولة وقسوة الواقع، حيث تخلوا عن كل ما هو عزيز ومألوف ليجدوا أنفسهم في رحلة لجوء محفوفة بالمخاطر، وصولاً إلى المعسكرات المريرة.
عند الحديث عن رحلتهم، يذكر الكثير من هؤلاء القصّر أن وصولهم إلى أوروبا كان بمثابة حلم يراودهم، كما لو أنه كان حديثاً منامياً. ومع ذلك، فإن الحقيقة التي يواجهونها تختلف تماماً وتعكس التناقض بين الصورة المتخيلة لأوروبا كملاذ آمن والواقع الذي يستقبلهم به.
خفايا الكامبات
في رحلة اللجوء وفي معسكرات اللاجئين، قلما يخبرك أحد عن التحديات التي تواجه اللاجئ، لربما خوفاً من العار وربما خوفاً من نظرة المجتمع، ولا تنتهي هذه الرحلة عند عبور الحدود بالتهريب، فهذه فقط البداية لتكون الرحلة مثقلة بالأعباء ومليئة بالتجارب والتضاريس.
يفرز القاصرون إلى مكان إقامة مخصص للاجئين يطلق عليه "الكامب" حتى إن كان فندقاً، ليكون لهم ميزات خاصة في البلد المستضيف، فيعين لكل قاصر وصي قانوني من المنظمة المسؤولة عنهم، وهنا تبدأ رحلة التمرد ومرحلة النبذ.
يبدأ القاصر بالاستيقاظ من حلمه. تمنحه البلاد الجديدة والقوانين الرعاية والحقوق، ويتذكر رحلة اللجوء التي شهد فيها الموت والجوع والقهر، وتنتابه ريبة الصحوة من أهله أولاً حتى لو لم يعترف بها، كيف رموه في طريق الموت، لكنه يبرر لهم ويرى فيهم رمزاً للتضحية، إلا أن عقله الباطن يبقى مثقلاً بالشراسة ضد كل من ألقى به في هذه الرحلة حتى نفسه.
تقول المختصة الاجتماعية روعة السمان لموقع تلفزيون سوريا إن الأهل المصدر الأول لتلبية الاحتياجات والدعم والحماية، في الوقت الذي كانوا سبباً في تعرض القاصر للخطر، مهما كانت الأسباب.
وأضافت: "من جهة أخرى يواجه القاصر جفافاً عاطفياً بسبب عدم تفهّم الأهل لوضعه بل ويستقبل اللوم الدائم منهم، ما يجعل لديه ردود فعل عنيفة وضياعاً بين مشاعر الحب والكره".
وترى السمان أن القاصر في هذه المرحلة بحاجة إلى الأمان للوصول إلى عتبة الأمل، فيصبح عقله يكره كل من يوجّه له اللوم بقرار لا واع، وتمسي ردود فعله عكسية لمشاعر الشوق والحب في داخله، وتتحول لمشاعر إلى استياء، وقد تصل للكره ليحمي نفسه من الألم.
وفي حديث مع الشاب يوسف، قال: "بالتأكيد أشتاق لأمي، مات أبي وأنا طفل وأخذت كل الحب منها، أشتاق لطعامها وحضنها لكنني أستطيع الاحتمال هذه الفترة".
وأصعب ما يجده يوسف حين يعود من المدرسة هو اضطراره لإعداد الطعام بنفسه، فجميع من يقطن معه قاصرون في نفس عمره، يتشارك وصديقه الأصغر منه بعام تكاليف المشتريات.
وأشار يوسف في حديثه لموقع تلفزيون سوريا إلى أن صديقه لا يعرف أن يطبخ، فيتولى هو إعداد الغداء بعد أن يعود من المدرسة، وهذا الأمر رغم متعته بالنسبة له، لكنه يكون صعباً حين يعود متعباً.
وبرر قلّة تواصله مع والدته بأنه ينشغل بأصدقائه والنشاطات التي يقوم بها من كرة قدم واستمتاع مع أصدقائه، في الوقت الذي تبحث والدته عن دقائق لتتحدث معه وتطمئن على وضعه.
يسعى يوسف ليكون شاباً صالحاً، توقف عن شرب الدخان منذ وطأت قدماه أوروبا، ويرى في الحشيش أمراً مضراً لا يقربه ولا يمسه وساعده وجود شريك مماثل له في الغرفة لا يقرب الحشيش وإن كان يدخن في بعض الأوقات.
مستنقع الحشيش
يفرد القاصرون أجنحتهم بعد قيد طويل الأمد عاشوه في طفولتهم، يتفرسون في وجه الماضي ويقبلون على حياة فيها كل أنواع التحرر، أبسطها في متناول أيديهم (الحشيش) وأصعبها في متناول فكرهم (الحرية). يمسكون بالأولى ويسعون للتلذذ بها، بينما يرفضون الأخرى ويدوسونها بكل ما أعطوا من قوة.
يرى الكثير من القاصرين في الحشيش والمخدرات ملاذاً آمناً للهروب من ماضيهم المحمل برائحة البارود والعفن بدل الياسمين والورود، ويهربون به إلى جمال الحياة.
وقال الشاب أيمن البالغ من العمر سبعة عشر عاماً، لموقع تلفزيون سوريا: "أكثر ما افتقده هو أمي، وأقصى ما أعمل لأجله أن أقوم باجراءات لم الشمل لتكون معي".
يرسل أيمن من مصروفه الذي لا يتجاوز سبعين يورو مصروفا لأهله بشكل دائم، يمتنع عن كثير من الأمور التي يعتبرها رفاهية كشراء الملابس والخروج إلى أي مكان قد يكلفه المال، فبرأيه أهله وإخوته أحق بهذا المال.
يعيش أيمن في حالة من التخبط بين كرهه للذهاب إلى المدرسة وبين توبيخ أبيه له ليلتزم بها، ويجد في الحشيش في بعض الأوقات ملاذاً للنسيان.
يتوقف اليافع عن تدخين الحشيش لشهر أو أكثر في بعض الأوقات ويعلن (توبته) كما يقول، لكن ضغوط الحياة وسعيه لتأمين المال لأهله الذين يعيشون في سوريا في وضع سيء يجعله يعود إلى التدخين عله "ينسى ويسبح في عالم آخر" وفقا لتعبيره.
وقالت المتخصصة الاجتماعية عن ذلك: "خاض القاصرون رحلة في مرحلة الطفولة وتحملوا مسؤولية تفوق قدراتهم بشكل مفاجئ، وواجهوا صدمات عديدة لتصل إلى مرحلة مواجهة الموت، وبعد الوصول يصابون بتأثيرات ما بعد الصدمة".
وأشارت السمان إلى أنه بالرغم من وجود منظمات راعية تتابع شؤونهم، إلا أن هذا الأمر لا يؤمّن لهم احتياجاتهم النفسية والعاطفية والاجتماعية.
وتابعت: "يتعرض القاصرون إلى اضطرابات نفسية بسبب صدماتهم وتأثرهم بمشاعر الشوق للأسرة والمسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، فيجدوا من الحشيش الطريق الوحيد لتلبية احتياجاتهم كهروب من واقعهم".
انغلاق تام أو انفتاح وذوبان
أما عن تقبل الآخر والتناغم مع الاختلاف، يجد القاصر كما معظم اللاجئين الجدد رغبة في تجاهله والريبة منه، فالمجتمعات العربية بشكل عام ربيت على النمط الواحد المتشابه واعتبرت أي خروج عن السرب إدانة.
تجد التعصب الديني في معظم حديثهم، ليس تمسكاً بالدين والتزاماً به وإنما تمرد على كل جديد وكل ما لم يكن، ليعيش اللاجئ القاصر في دوامة التناقض بين استمتاع بسيجارة حشيش وبين رفض لفكر جديد.
ونوهت السمان إلى أن "القاصرين الذين قدموا من بيئات محافظة، برمجوا فيها على الحكم على الآخر سواء بشكل واضح أو بشكل خفي، ما جعل لديهم نظرة فوقية بأنهم الأفضل".
وأضافت: "ينتقل القاصر من الحالة الطقوسية الدينية التي نشأ عليها إلى مجتمع منفتح لم يشهده من قبل في العلاقات الاجتماعية من علاقات دون زواج وتناول الكحول والمثلية وغيرها، ليجد نفسه أمام صدمة جديدة".
هذا الواقع الجديد المتناقض يجعل القاصرين يعيشون في المرحلة الأولى بحالة رفض وحكم وعدم تقبل للأفكار الجديدة وعادات المجتمع الجديد، أو يحصل العكس فيذهب بعضهم إلى محاولة التصرف بنفس طريقة المجتمع الجديد إلى درجة الذوبان، بحسب السمان.
وأكدت المتخصصة الاجتماعية أن المراهق في هذه المرحلة العمرية يمتلك شخصية حدية، إما مع أو ضد، فيكون مع الانغلاق التام أو الانفتاح التام وفي كلتا الحالتين يميل إلى التطرف في الشعور، ولكن مع مرور الزمن يبدأ القاصر ببناء هويته وينتقي ما يناسبه ليكون شخصيته".
طعنة تزيد الجرح
في الكامب ذاته الذي يؤوي القاصرين، تجد نظرة الريبة من معظم العائلات من الجنسية ذاتها إلى هذه الفئة، فالقاصر يشكل خطراً وعبئاً في المجتمع الصغير ويشكل حالة من التمرد والاستنفار.
وحين تصل عائلة جديدة إلى الكامب، أول ما يحذّر الأصحاب الجدد (اللاجئين القاطنين في الكامب) من القاصرين، فالانطباع السائد أنهم فئة منبوذة ذات سمعة سيئة، وهكذا ينضم اللاجئون الجدد إلى من سبقهم في احتقار هذه الفئة المستضعفة من المجتمع التي خرجت بحثاً عن ملاذ آمن لتجد نفسها في بؤرة الأحكام والتصنيفات.
ومن فقر وعوز وعدم أمان إلى مجتمع نابذ رافض لفئة بالكاد خرجت إلى الدنيا، هنا تجد الطامة الكبرى، ويكون التمرد باللجوء إلى الحشيش الذي يوفر لهم مساحة أمان.
والجدير بالذكر أن نسبة كبيرة من القاصرين وصلوا إلى دول اللجوء الأوروبية من دون ذويهم، لأن الفقر المدقع الذي ضرب سوريا لا يترك مجالاً للعائلة لدفع تكاليف التهريب التي تتراوح بين 5 - 15 ألف يورو للشخص الواحد، ولذلك يرسلون القاصر القادر على عبور حدود الدول مع مهربي البشر ويصل إلى مبتغاه وهو دون الـ 18 عاماً، ويتقدم بطلب لم شمل لعائلته، ليكون القاصر تذكرة عبور العائلة إلى أوروبا.
وقد أصبحت عمليات الانفصال هذه أطول أمداً، حيث تتخذ العديد من دول الاتحاد الأوروبي، نهجاً تقييدياً متزايداً تجاه حق اللاجئين، الذي يكفله القانون الدولي وقانون الاتحاد الأوروبي، في لم شملهم مع أسرهم المباشرة. إن آثار هذه السياسات محسوسة بشدة من قبل اللاجئين الذين يتم حثهم على الاندماج دون دعم أحبائهم وأفراد الأسرة الذين تركوا وراءهم والذين يكافحون من أجل التكيف مع الانفصال المطول.
يعاني القاصرون الذين قدموا دون ذويهم من إضرابات عديدة، أقلها الشعور بالغربة يليها الشعور بالرفض ليس من المجتمع المستضيف بل من المجتمع الذي قدم منه، فنظرة الريبة تحيطه بهم من كل اتجاه.
وأوضحت السمان أن القاصرين يتصرفون بردود فعل عنيفة بسبب احتياجاتهم العاطفية والاجتماعية دون إدراك منهم لتلك الحاجات، ما يجعل المحيطين بهم من سكان ينظرون إليهم نظرة نبذ فيصبحون معزولين اجتماعياً.
وتابعت: "يؤدي التواصل السلبي من قبل العائلات المحيطة بهم، سواء من خلال إطلاق الأحكام أو النبذ أو حتى نظرة العين، إلى مضاعفة ردود أفعالهم العنيفة".
وبحسب رأي السمان، "يحتاج الوافدون الجدد إلى دورات توعية نفسية واجتماعية إلى جانب دورات الاندماج، فالاحتواء هو ما يحتاجه القاصرون أكثر من الاندماج في هذه المرحلة".
يتحدث اللاجئون عمن أذنب من بينهم وكأنه ليس منهم، بل غريب عنهم ودخيل على دنياهم، وتنتهي الحال بنتيجة مأساوية: آلاف القصر يحملون جوازات سفر أوروبية وعقدة نقص، ليس لسبب سوى أنهم قاصرون يصنفون في كل الأعراف والقوانين كـ"فئة مستضعفة" باستثناء عرف معظم سكان الكامب من بلادهم.
هؤلاء القاصرون، الذين تُشكل صورهم النمطية عبئاً إضافياً على كاهلهم المثقل بذكريات مؤلمة وخيبات أمل، يحتاجون إلى تفهم أكبر ودعم أعمق من المجتمعات التي استقبلتهم.