الغرام بالمخابرات

2024.08.26 | 06:21 دمشق

آخر تحديث: 26.08.2024 | 06:21 دمشق

جهاز الأمن العام التابع لـ"هيئة تحرير الشام" في إدلب
+A
حجم الخط
-A

الثقافة العربية المعاصرة هي معارِضة تعريفاً، ككل ثقافة حديثة. ولذلك أشاعت، بين جمهورها الكبير على امتداد العالم العربي، موقفاً سلبياً ثابتاً من أجهزة الأمن السياسي الداخلي، وخاصة عبر منتجاتها الدرامية، التلفزيونية والسينمائية، وبأقلام كتّابها الصحافيين الرائجين وروائييها وشعرائها المقروئين على نطاق واسع، وجمع من الكتّاب الآخرين.

وقد أنتج هذا شعوراً سائداً لدينا بأن هذا الموقف بديهي، شعبي، يحظى بالاتفاق إلا من قبل السلطات، وأمنييها؛ أي من اعتدنا إطلاق وصف "زبانيتها" عليهم.

لكن الصراع بين بعض الشعوب وبين ديكتاتورياتها، الذي وضعه الربيع العربي تحت أضواء وقائعية كاشفة، أخبرنا أن الأمور أكثر تعقيداً من أن نستند في تحليلها إلى مسرحيات دريد لحام/ محمد الماغوط أو إلى مواسم مسلسل "بقعة ضوء" وما يشبههما من أعمال.

ففي الحالة السورية اكتشفنا، منذ العام 2011، أن الإجماع الذي كان ظاهراً حول الدور القمعي لأجهزة المخابرات تفكك إلى موقفين؛ فمشى معه الثائرون إلى أقصاه مستندين إلى أدلتهم الدامية المتجددة من اعتقالات وقتل في مسالخ بشرية، في حين تبيّن أن لهذه الأجهزة جمهوراً "طويل عريض" لا يقتصر على العاملين فيها ومحيطهم الأسري والاجتماعي المباشر، بل يتعداهم إلى كل من يتفق مع هذه الأجهزة في "موقفها السياسي" الموالي.

وعلى حين غرّة صار للمخابرات مجتمعها الذي "يتفهّمها" بل يدعمها، ويغضّ النظر عن انتهاكاتها الوحشية التي صارت معلَنة بسبب تكرارها.

يمر التماهي بالمخابرات، عادة، بمدخل الأمن المرفوع إلى رتبة "الأمن والأمان" ذات الجرس الشاعري المهدهد والأثير لدى الطغاة وإعلامهم، وخاصة عندما تتولى هذه الأجهزة ملاحقة بعض الجرائم الجنائية المريعة أو تلك التي تتحول إلى قضايا رأي عام..

والحق أن ما حصل في سوريا في ظرف استثنائي ساخن يعثر على نظائر له في بلاد أخرى في شروط أقل توتراً أو حتى باردة؛ في العراق في ظل الحكم الحالي بأمنه المنحاز طائفياً، وفي مصر التي تدعم الثورةُ المضادة فيها جهازَ "أمن الدولة"، وفي الأردن حيث تشارك المخابرات في صنع السياسات، وفي السعودية التي ارتبط تقدير وزارة الداخلية فيها بطاعة أولي الأمر وبمحاربة "الإرهاب"، وفي لبنان حيث تتوزع الأجهزة الأمنية طائفياً كما في الحكومة.

يمر التماهي بالمخابرات، عادة، بمدخل الأمن المرفوع إلى رتبة "الأمن والأمان" ذات الجرس الشاعري المهدهد والأثير لدى الطغاة وإعلامهم، وخاصة عندما تتولى هذه الأجهزة ملاحقة بعض الجرائم الجنائية المريعة أو تلك التي تتحول إلى قضايا رأي عام، مزيحة إلى العتم، ما أمكن، عملها المركزي في قمع المعارضين. فتُبدي بذلك وجه حماية المجتمع من القتلة والجريمة المنظمة لقاء أن يؤيدها جزء من هذا المجتمع في التنكيل بجزئه الآخر.

تقبل هذه الصفقة شرائح من مؤيدي الوضع الراهن؛ من سياسيين وموظفين كبار ومتوسطين ورجال مال ووجهاء وجمهور، كما يوقّعها مثقفون وإعلاميون ينتمي بعضهم إلى بلاط الحاكم، في حين يتورّط آخرون في تأييده والدفاع عن أذرع بطشه انطلاقاً من الاتفاق السياسي معه والرغبة في الحفاظ على استقرار البلد في ظل التوجه القائم.

ومن البديهي أن على هؤلاء الفاعلين، ممن لم يقفوا مع السلطان طمعاً في ذهبه أو خوفاً من سيفه كما يقولون، أن يكونوا شديدي الحذر من فقدان الحساسية تجاه الديكتاتورية، فهم يبحرون في المشتبهات ويمشون على حرف قد يزل بهم، في أي لحظة، إلى موقع التستر على القمع وبل الدعوة إليه.

وبالعودة إلى سوريا نلحظ، في هذا الشأن، مجموعتين شديدتي التباين من المثقفين والإعلاميين في كنف كل من نظام بشار الأسد وحكم "هيئة تحرير الشام".

ففي دمشق، وفضلاً عن جيش من المنتفعين، تبرز أصوات ثلة من المتعصبين الآيديولوجيين لعقيدة "حزب البعث"، والتمسك بالتراث السياسي للأسد الأب في مواقفه الخارجية والداخلية، ونهج "المقاومة".

ولأنّ معظم ما سبق مما فات أوانه وتجاوزته الأيام وسلطة الأسد الابن حتى؛ يعبّر هؤلاء عن مواقفهم المحاصَرة بتشنج، وفي سبيل حملة تطهير خيالية يحلمون بحصولها في الإعلام والمجتمع، لا يتورّعون عن تنبيه الجهات العامة لهذا الانحراف أو ذاك.

لكنهم يعرفون البلد بما يكفي لأن يعلموا أن الإحالة إلى المؤسسات الحكومية أو الحزبية، في مسائل تتعلق بتوجه سياسي، ستجد طريقها إلى "الجهات المختصة" كما توصف المخابرات السورية. مما يحوّل الكتّاب منتقدي زملائهم إلى كتّاب تقارير بهم في الواقع، ولعل بعضهم لا يمانع في أن يصبح كذلك على أي حال!

على ضفة أخرى في إدلب، وأيضاً بغضّ النظر عن المأجورين صراحة، يرى عدد وافر من المثقفين (وهم هنا مشايخ أو إسلاميون) والإعلاميين من ذوي السيرة المهنية المعقولة، أن الاحتجاجات المستمرة ضد قيادة "الهيئة" قد تؤثر على استقرار "المحرّر" بشكل يستغله النظام، وأنه من الأفضل انتظار الإصلاحات التي وعدت بها هذه القيادة.

وما يزيد الأمر خطراً قيمياً في هذه الحالة ربط المتظاهرين في المنطقة بين مطلبهم الأول بإزاحة قائد "الهيئة" وهدفهم الثاني بحل "جهاز الأمن العام"، مما يخلط أوراق الحفاظ على الاستقرار، وتجنيب المنطقة الدماء التي يلوّح بها الجولاني..

لكن طول المدة، بات يحشر الإعلاميين في خانة تجاهل ما يجري بشكل مقصود يصبّ في الانحياز، كما دفع بعض الموظفين المتصدرين في "حكومة الإنقاذ" والأكاديميين والمشايخ إلى تبنّي مواقف تدافع عن السلطة القائمة بأكثر مما أرادوا في البداية، وبما قد يفتح الباب على انزلاق أكبر في مسيرة الولاء.

وما يزيد الأمر خطراً قيمياً في هذه الحالة ربط المتظاهرين في المنطقة بين مطلبهم الأول بإزاحة قائد "الهيئة" وهدفهم الثاني بحل "جهاز الأمن العام"، مما يخلط أوراق الحفاظ على الاستقرار، وتجنيب المنطقة الدماء التي يلوّح بها الجولاني، والغزل بجهاز أمنه الذي يستغل أي فرصة للبروز ضامناً للسلم العام والأمن والأمان.

رغم المصاعب العملية التي تنتج عن الموقف المعارض فإنه بسيط نظرياً ومريح أخلاقياً، أما أصحاب المواقف الموالية، الذين يزعمون أن ما يقودهم اتفاق قناعاتهم مع السلطات لا الالتحاق بركبها، فعلى خطر عظيم من أن يتحولوا إلى مطبلين أو مخبرين.