كانت الصحف في سوريا خبزا محرما رميه في الشوارع، وكانت لغة الصحافة كائنا حيا ناطقا، يخوض المعارك السياسية والفكرية والاجتماعية، قبل أن يتحول إلى إعلام يخدم السلطة وينطق باسمها، يقول شمس الدين الرفاعي في كتابه تاريخ الصحافة السورية: "كنا نشاهد كثيرا من الناس في شوارع سوريا ومدنها يلتقطون أوراق الصحف من على الأرض خشية أن تداس بالأقدام ويضعونها في مكان بعيد عن الطريق".
صحافة سيّارة في سوريا
ففي وقت مبكر جداً، أدركت السلطات الحاكمة الحاجة إلى وسيلة لإبلاغ قراراتها إلى عامة الناس، وقام ما يسمى بـ"المنادي" بهذه المهمة، ففي دمشق وحلب واللاذقية كان شخص قوي الصوت، يحمل طبلاً أو بوقاً، يتجول في الساحات والأسواق، منادياً الناس ليبلغهم بأخبار سعيدة، كانتصار جيش البلاد، أو وفاة حاكم ظالم، أو تخفيض الضرائب، أو توزيع الطعام بمناسبة سعيدة كولادة ولي للعهد، أو ليبلغهم بأخبار سيئة مثل فرض مزيد من الضرائب أو تولي أمير قاس لمقاليد الحكم، أو الدعوة للتعبئة والتجنيد، أو الاستعداد لخطر خارجي..
ومع انتشار الإسلام في بلاد الشام، وشيوع بناء مآذن عالية للمساجد، بات المنادي يقوم بعمله من على مئذنة الجامع التي تسمح له بإيصال صوته إلى مدى أبعد، وتريحه من التجوال وتكرار الكلام نفسه لمرات كثيرة.
وبوقت مبكر جداً، أدرك الحكام حاجتهم إلى أداة للترويج لأنفسهم ولقراراتهم وتجميلها وللدعاية لها، وتعبئة الناس لتنفيذ قراراتهم، وخاصة القرارات الصعبة كإعلان الحرب، ووجدوا في الشعراء ضالتهم، فباتت قصائد "شعراء البلاط" جهاز دعاية الحاكم، منذ ألوف السنين. رغم أنه جهاز خطر، فقصائد مديح المتنبي خلدت حاكم حلب سيف الدولة الحمداني كحاكم فارس شجاع كريم ومنصف، وما كان لألف صحيفة أن تنجح في ذلك، وقصيدة هجاء واحدة من المتنبي، جعلت من حاكم مصر كافور سخرية إلى الأبد.
وقبل أكثر من 150 سنة، وتحت الحكم العثماني، عرفت المدن التي سيصبح اسمها سوريا لاحقاً، أداة مبتكرة تجمع الوظيفتين معا، وظيفة تبليغ القرارات ونشر الأخبار الرسمية، ووظيفة الترويج والدعاية، وهي "الجريدة”.
بزوغ فجر أول صحيفة سورية
تقول دائرة المعارف الإسلامية في باب الصحافة السورية أن عام 1865م شهد صدور أول جريدة في هذه البلاد، واسمها "سورية"، وكانت تصدر كل يوم خميس وكانت اللغة التركية تنشر على وجه صفحتها الأولى، واللغة العربية على وجه آخر منها. وصدرت بعناية محمد راشد باشا والي دمشق، وكانت تميل إلى بث الروح الوطنية السورية سرا، عن طريق إحياء اللغة العربية وآدابها. وحملت أخباراً أسبوعية للنشاطات السياسية والاقتصادية والأحداث المحلية في دمشق وحمص وحماة ودرعا.
واستقطبت الصحف كبار أدباء ومفكري ذلك الوقت، مثل ناصيف اليازجي وبطرس البستاني وعبد الرحمن الكواكبي وأحمد فارس شدياق ورزق الله حسون وفرنسيس مرّاش، الذين نشروا آراءهم ونتاجهم الأدبي في الجرائد، وخاضوا معاركهم السياسية والفكرية والاجتماعية على صفحاتها.
مريانا مراش.. أول سيدة تدخل عالم الصحافة السورية
ولم تمض سوى خمس سنوات على صدور أول صحيفة، حتى دخلت المرأة السورية عالم الصحافة. فقد نشرت مريانا مراش، أخت الأديب الحلبي فرنسيس مراش أحد أركان النهضة الأدبية في شمالي سوريا في القرن التاسع عشر، مقالة بعنوان "شامة الجنان" في مجلة الجنان في أيلول عام 1870 بحسب "الفيكونت فيليب دي طرازي"، وذلك بعد دعوة لها من رئيس تحرير المجلة "سليم البستاني" ومجموعة من الأديبات.
وواصلت مراش كتابة المقالات التي تدعو فيها إلى تحرر المرأة، وحثها على التعلم، كما دعت النساء ليشاركن في الكتابة الصحفية، وألا يكتفين بالقراءة فقط.
حرية صحفية لا مثيل لها
ونالت الجرائد اهتمام وتقدير السوريين، وكانت صفحاتها تعامل معاملة الكتب المقدسة. فقد ذكر شمس الدين الرفاعي في كتابه تاريخ الصحافة السورية: "أننا كنا نشاهد كثيرا من الناس في شوارع سوريا ومدنها يلتقطون أوراق الصحف من على الأرض خشية أن تداس بالأقدام ويضعونها في مكان بعيد عن الطريق".
وبنهاية الحكم العثماني ودخول الجيش العربي إلى دمشق عام 1918، عاشت الصحافة في سورية نهضة كبيرة، كماً ونوعاً، فصدرت أول صحيفة في ظل الحكم العربي هي "الاستقلال العربي"، تبعها في اليوم التالي "جريدة العرب"، وبلغ مجموع الصحف التي صدرت في سوريا خلال عام واحد 10 جرائد، 5 منها في دمشق و3 في حلب وواحدة في حمص وأخرى في حماة.
وأولى الملك فيصل الهاشمي، حاكم أول دولة سورية بحدودها الحالية، الصحافة الوطنية اهتماما كبيرا. فقد ورد في كتاب تاريخ الصحافة السورية: "أنه دعا رؤساء تحرير الصحف السورية لدمشق وطلب منهم توجيه الرأي العام نحو تأسيس نظام وطني في سوريا ونبذ الأفكار والأهداف التي تخدم أشخاصا ولا تخدم أفكارا وطنية".
وتواصلت الثورة الصحفية في كل المدن السورية، وبلغ مجموع الجرائد والمجلات الصادرة خلال عامين، 42 جريدة، و13مجلة. وبذلك بات في سوريا 55 دورية بين جريدة ومجلة، وهو رقم لم تعرفه الصحافة السورية في أي وقت.
وبالقضاء على المملكة السورية العربية، أول دولة سورية، وقعت سوريا تحت نير الاحتلال الفرنسي عام 1920، وتحولت اهتمامات الصحف والمجلات السورية إلى قضية جديدة. ففرنسا التي كان كثير من المثقفين السوريين يعتبرونها المثل الأعلى للحرية والحداثة والتقدم والتنوير واحترام حقوق الإنسان، باتت هي المحتل الغاشم الذي حرم السوريين من استقلال انتظروه طويلاً ولم يدم سوى سنتين.
صحف حرة وكفاح..
وبدا ذلك واضحاً في افتتاحيات جريدة "المقتبس" التي عدت أولى الصحف السورية المدافعة عن حرية الصحافة إبان الانتداب الفرنسي. فمن بين عناوين تلك الافتتاحيات: "ماذا نريد من فرنسا؟" و"حرية الصحافة في سوريا" و"الارتجاعيون وحرية الصحافة". إضافة إلى عشرات المقالات التي دافعت عن حرية الصحافة وانتقدت الحكومة التي فرضت القيود على الصحافة وحدت من حريتها، فقد وجدت في أعداد "المقتبس" عام 1926 مساحات بيضاء كثيرة بسبب تضييق الرقابة على هذه الصحيفة.
وبعد استقلال سوريا عام 1946 انتشرت ظاهرة الصحف الحزبية، مثل جريدة "التحرير العربي" الناطقة بلسان حركة التحرير، وجريدة "البعث"، لسان حال حزب البعث العربي الاشتراكي. وصدر قانون لتنظيم الصحافة عام 1949، تم تجميد العمل به عدة مرات من قبل زعماء الانقلابات العسكرية المتتالية. وباتت الحريات الممنوحة للصحف معياراً لمدى احترام العهود المتعاقبة لحقوق الإنسان في سوريا.
صحافة حرة غيبها النظام السوري
لم تر النور الصحف التي نشأت بعد قيام "ثورة الثامن من آذار"، حيث اتخذت عدة إجراءات مجحفة بحق الصحافة بإيقاف جميع الصحف في سوريا ما عدا "البعث" وأتبعته بمرسوم امتيازات الصحف والمطبوعات الدورية وختم أماكن طباعتها، كما تم إحداث "مؤسسة الوحدة للطباعة والنشر" وصدر عن هذه المؤسسة جريدة الثورة شبه الرسمية، وأفرجت عن بعض الصحف والمجلات الخاصة، بعدها أقروا قانون تنظيم نقابة الصحافة السورية والقائم على نمط تنظيم النقابات العمالية، وباحتكار حزب البعث للسلطة عام 1963 ثم بوصول حافظ الأسد إليها عام 1970 لم يبق في سوريا سوى صحف النظام، البعث وتشرين والثورة، وهي أدوات دعاية محضة، تجمع بين دور "المنادي" و "شاعر البلاط"، ولا تمت إلى الإعلام ودوره بأي صلة.
المصادر : تاريخ الصحافة السورية لشمس الدين الرفاعي
تاريخ الصحافة السورية اللبنانية لشمس الدين الرفاعي