كيف كانت أحوال ولاة دمشق خلال الحكم العثماني؟

2021.07.15 | 04:31 دمشق

5c310e53-c8b4-4e03-9678-48709ed64e32.jpg
+A
حجم الخط
-A

مر على دمشق خلال أربعمئة سنة من الحكم العثماني نحو مئتي والٍ، كانت تكبر مساحة حكمهم وتصغر حسب قوة هذا الوالي ورضا الباب العالي في إسلامبول عنه، وحسب قوة الولاة الآخرين في بلاد الشام، الذين قد يمتد حكمهم فيشمل مناطق من هذه الولاية، إذ إن اسم دمشق لم يكن منتشراً إلا بين أصحاب التراجم.

شام شريف

وامتد حكم الولاية حتى شمل سناجق حماة وحمص وأجزاء من لبنان والأردن وفلسطين، فبلاد الشام خلال الحكم العثماني كانت تحتوي على خمس ولايات، اثنتان منها رئيستان كدمشق وحلب، والثلاث الأخريات ثانويات هنَّ طرابلس وصيدا وعكا التي كان تتبع لها مدينة القدس، ورغم أهمية حلب التجارية والجغرافية بالنسبة للسلطنة، حيث تعد ثالث مدينة بالأهمية بعد إسطنبول والقاهرة، إلا أنه لم يكن فيها فرقة الـ (قابي قول) الذين يتبعون مباشرة للباب العالي، وتوكل إليهم مهمة إخماد الثورات التي تندلع ضد الدولة العثمانية، بينما في دمشق كانت هناك فرقة من (القابي قول)، ربما لأن المدينة هي عاصمة الإقليم، وموقعها المتوسط يسهل سرعة وصول الجيش إلى الولايات المتمردة، وواليها يسمى كذلك وزيرا وهو وزير الحج، مع ما كانت توليه السلطنة العثمانية لهذا الركن الخامس من أركان الإسلام من اهتمام وتعظيم، وفيها تجتمع وفود الحجيج للانطلاق إلى مكة، لا غرو بعد ذلك أن يسميها الأتراك "شام شريف".

آثارٌ تدل على الولاة

كانت سياسة الدولة العثمانية تقوم على عدم إطالة فترة الولاية، خوفاً من انقلاب الولاة على الدولة وعصيان أوامرها، فكان يتم تبديل الولاة باستمرار، ونقلهم بين أكثر من ولاية، ومنهم من حكم دمشق ثم عُزل عنها ونقل إلى غير ولاية ثم عاد إليها.

وحرمت سياسة تبديل الولاة هذه الشامَ كثيراً من المنافع التي يسببها الاستقرار، فما أن يستتب الأمر للوالي ويتفاهم بالقوة أو بالتراضي مع قادة الإنكشارية النظامية وفرق المرتزقة كالبغدانية واللاوندية وغيرهم، ويبدأ بالتفكير بتحسين أحوال ولايته حتى يتم عزله، بل إن من الولاة من قد جرى عزله حتى قبل أن يصل إلى دمشق، وبعضهم عُزل بعد أيام أو أسابيع، ومن استقر به المقام إلى سنة فما فوقها فقد سعى لتخليد نفسه عبر بناء يحمل اسمه سواء كان خاناً أو قيسارية أو قصراً أو سوقاً أو حتى مسجداً، ويستطيع المهتم بتاريخ هذه المدينة العريقة أن يعرف أهم الولاة العثمانيين عبر تتبع أسماء الذين بنوا ما سبق ذكره في الفيحاء، فجامع لالا باشا بناه الوالي، الذي يحمل ذات الاسم وكذلك جامع شمسي باشا، والدرويشية بناها درويش باشا.

عادل ولكن؟

والسنانية بناها بين عامي 988 و 998 هجرية سنان باشا، الذي كان يلقب بصاحب الخيرات، وجاء بعده أكثر من والٍ يحمل ذات الاسم، يقول محمد بن جمعة المقّار صاحب كتاب (الباشات والقضاة في دمشق) إن سنان باشا هذا "كان عارفاً عاقلاً كاملاً عادلاً يحب الرعية والفقراء والمساكين والمجاذيب، وله خيرات كثيرة في غالب البلدان" إلا أنه عندما توفي أرسلوا مخلفاته للدولة العلية فوجدوا أنها لا تقدر بقيمة من كثرتها، ويذكر المقّار مئات الصناديق المليئة بالذهب والفضة والألماس والتحف والسيوف الذهبية، والمصاحف المطلية بالذهب وغيرها، حيث أفرد المؤلف ثلاث صفحات لمقتنيات هذا الوالي، التي معظم الظن أنها مقتنيات شخصية.

لا للتمرد!

بكل الأحوال لم يُسجل في تاريخ دمشق أن والياً عليها قد تمرد على الباب العالي وشق عصا الطاعة، في حين أن اثنين من ولاة عكا فعلاها كالشيخ ظاهر العمر، وأحمد باشا الجزار، الذي استطاع بتحالفاته أن يمد مساحة حكمه حتى بلغت معظم بلاد الشام بما فيها دمشق، وكانت عينه على مصر لولا أن عاجله الأجل، كذلك تمرد أكثر من حاكم لجبل لبنان من الدروز، ومن المتاولة في بعلبك على الدولة العثمانية، التي كانت دائماً في النهاية تتمكن من قمع هذه العصيانات، مع ما يرافق ذلك من عنف، قد يصل إلى حد إزالة بلدات وقرى من الوجود، والمتاولة هو الاسم القديم الذي كان يطلق على الشيعة "الاثنا عشرية" إلى وقت قريب.

انخفض إلى النصف عدد سكان دمشق منذ ضمها للدولة العثمانية على يد سليم الأول في بداية القرن السادس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، نتيجة الأوبئة الطبيعة والإهمال الصحي، فالولاة بمعظمهم يعنوا كثيراً ببناء المستشفيات والبيمارستانات، فضلاً عن الحروب والفوضى وغارات البدو.

بكل الأحوال لم يُسجل في تاريخ دمشق أن والياً عليها قد تمرد على الباب العالي وشق عصا الطاعة

آل العظم

لا يمكن الحديث عن ولاة هذه المدينة في العصر العثماني دون التطرق إلى آل العظم، الذين حكموا المدينة لمدة تزيد عن خمسين سنة على فترات متقطعة، يقول ميخائيل بريك الدمشقي في كتابه (تاريخ الشام وفلسطين ولبنان) إنهم أول ولاة عرب يتقلدون ولاية دمشق، وأولهم هو إسماعيل باشا العظم، ثم ابن أخيه سليمان باشا.

أفضل عصور دمشق..

 ثم جاء أسعد باشا ابن إسماعيل، وفي عهده كان هو العصر الذهبي للعائلة، وكانت دمشق في أفضل أيامها خلال حكم بني عثمان، حيث استطاع أسعد باشا أن يحقق الأمن والاستقرار عبر ضرب أوجاق الإنكشارية الذي كان يعبث بأمن المدينة، ويفرض الإتاوات والخوات على الأهالي، فكان أسعد باشا حازماً وصارماً مع الأقوياء ومتسامحاً مع الضعفاء وغير المسلمين، وبعد أكثر من مئتين وخمسين عاماً مازالت دمشق تفخر إلى اليوم بما بناه هذا الوالي كقصر العظم وخان أسعد باشا وغيرها كالحمامات والسُبُل، وهو من أكثر الولاة الذين استمروا في الحكم، إذ حكم دمشق لمدة 14 عاماً على التوالي.

فكان أسعد باشا حازماً وصارماً مع الأقوياء ومتسامحاً مع الضعفاء وغير المسلمين

ثم جاء بعده ليس مباشرة ابن أخيه محمد باشا، وهو الأخير من هذه العائلة الذي يتولى مقاليد دمشق، طبعاً كان من العائلة ولاة ومتسلمون ومسؤولون كبار في العديد من الولايات الأخرى، ومحمد باشا هذا وصفه المرادي في كتابه (سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر) بأنه "أكثر الوزراء عفة وكمالاً وعدلاً وديناً ومروءة، وكان واسع الرأي مهاباً حيث إنه لمجرد وقوف المتخاصمين بين يديه يحل المشكلة، وكان يحب العلماء والصلحاء والفقراء ويميل إليهم وكانت له ميزات كلية وصدقات جلية".

نهايات مأساوية

على كل لم تعر الدولة العثمانية اهتماماً كبيراً لعدل أو ظلم ولاة دمشق، بقدر اهتمامها بالاستقرار وتأمين طريق الحج وجبي الضرائب، من الطبيعي والحال هذه أن نهاية معظم ولاة دمشق كانت مأساوية، فقد قُتلوا أو نُفوا بعد عزلهم، حتى من مات منهم ميتة طبيعية تمت مصادرة أملاكه، فإسماعيل باشا العظم الذي حكم دمشق عدة سنوات قد سجن وصودرت أملاكه، وسليمان باشا العظم الذي توفي بشكل طبيعي قد صادرت الدولة أملاكه وعذبت أهله ونساءه، وأسعد باشا العظم قد عُزل عن ولاية دمشق رغم كل ما أنجزه فيها، وتم نقله إلى حلب، ثم ولاية سيواس التركية، حيث اتهم بأنه حرض البدو على مهاجمة قوافل الحج، فهرب وتخفى، إلى أن تمكنت الدولة العثمانية من قتله في مدينة أنقرة، وتمت مصادرة أملاكه، التي قدرها الرحالة الفرنسي قسطنطين دو فولني بثمانية ملايين ليرة ذهبية، في حين يقول ميخائيل الدمشقي إن ما صودر من الأموال والمجوهرات له ولخدمه يبلغ نحو مئة ألف كيس ونيف.

لم تعر الدولة العثمانية اهتماماً كبيراً لعدل أو ظلم ولاة دمشق، بقدر اهتمامها بالاستقرار وتأمين طريق الحج وجبي الضرائب

سياسة جمع الأموال

يُشار إلى أن الدولة العثمانية لم تخصص راتباً محدداً للوالي وحاشيته، إنما كانت الأموال تأتيه من مصادر مختلفة من الولاية، منها إقطاع خصصته الدولة لمصروف الوالي وحاشيته، وكان لا يسد أكثر من ثلاثين بالمئة من المصاريف، لذلك كان الولاة يعملون على جمع الأموال بكل الطرق، من أجل إرسال هدايا لكبار المسؤولين في إسطنبول، كي يبقوهم في المنصب، وكذلك بهدف تأمين مال للأيام السوداء التي قد تأتي بعد العزل.