كان الشاعر شوقي بغدادي يشير صراحةً وبوضوح إلى سوء فهم النقاد لشعره، خاصة في مراحله الأولى التي اشتهر فيها بالشعر الخطابيّ السياسيّ حيث اختار أن يوظّف الشعر لأهداف سياسية بحتة أهمها الرؤية الشيوعية الأممية للعالم والإنسان. فكتب في تلك المرحلة قصائد كثيرة فقيرة المحتوى شعريا وجماليا، مشحونة بالغضب والانفعال الثوريّ والانحياز إلى الحزب الشيوعي ورموزه البكداشية. حتى لم يكن ليتردد في مديح خالد بكداش نفسه.
وكان من فضائل هذه المرحلة الأولى أن اسمه لمع كشاعر ملتزم بالجماهير وقضايا التحرر... ما أكسبه امتيازا أيديولوجيا قويا ساعده في الانتشار والشهرة وتكريس اسمه.
هذه حقيقة تاريخية وموضوعية لا يمكن نكرانها ومحوها. لكن الذي يشكو منه شوقي أن النقاد (ولا ندري هل هناك نقاد "حقيقيون" للشعر اتهموه بذلك مباشرةً؟) حبسوه في تلك المرحلة رغم أنه غادرها وانقلب عليها شعريا وجماليا ورؤيويّا، وصارت من مخلفات الماضي عنده. وهو يمتلك الحق والمشروعية في هذا فعلا. فمن الظلم والإجحاف أن يتم النظر لتجربة شعرية عمرها أكثر من ستين سنة من خلال المرحلة الشعرية الأولى للشاعر، ويتم إغفال مسار هذه التجربة وتطورها ومآلاتها اللاحقة.
شوقي نفسه وفي حوارات عديدة معه وقف وقفة المراجع الناقد لحياته وأسلوبه، ولم يتهرب من استحقاقات السؤال النقدي الذاتي، وذلك ما يدل على إحساسه بأنه أهمل جماليات القصيدة لصالح السياسة والنضال الشيوعي. ومع أنه أهملها لسنوات طويلة، لكنه حين تدارك ذلك كان لدينا شوقي بغدادي آخر، رأيناه شاعراً مجتهدا في الانهماك بتفاصيل الحياة البسيطة وتحولاتها الإنسانية، شاعرا يملك القدرة الهائلة على التأمل والصمت والاستغراق في الأشياء والكائنات والمدن والبشر والأفكار. لقد كانت مراحله منذ منتصف السبعينيات وحتى النهاية، تقف على النقيض تماما من الناحية الجمالية والفنية من مرحلة النضال والصراخ والمظاهرات.
لقد كسبنا منذ منتصف السبعينيات شاعرا يحتفي بالإنسانِ الحرّ، وبالذات والوجودِ وبالمرأة والعشق وتفاصيل هامشية هي أساس الحياة، وتبلور كل ذلك أكثر ما تبلور في الثمانينيات حتى آخر مشواره
وما كان يعبر عنه سابقا على أنه تفاؤل ثوريّ وتاريخيّ، اضمحلّ ليحل محله التفاؤل بالإنسانِ وقدرته على الإصغاء لذاته وكينونته المهملة، الإصغاء لمتطلبات أعماقه في زحمة الحياة الطاحنة، مع ما يستلزم ذلك من تحول في اللغة الشعرية والبناء اللغوي والأسلوب، فلم نعد نرى حشودا غفورة ولا ثورات هادرة ولا رايات حمراء. بل صرنا نلمس الذات الإنسانية وأحوالها من حب وحزن وأمل وانكسار وفرح وصمت. ظل شوقي مؤمنا بالإنسان والحرية نعم، لكن اختلفت زاوية النظر والمدى كثيرا، لم يعد يطالب هذا الإنسان ببطولات جوفاء دونكيشوتية من لوازم اليساريّة والأممية، لم يعد ينظر للإنسان على أنه خادمٌ للفكرة والسياسة والأيديولوجيا بل بالعكس تماما، وحسنا فعل بذلك التحول الكبير فقد كان من أجل مصلحة الشعر كفنّ ونوعٍ جماليّ من الكتابة ينبغي أن تكون السياسة والأفكار تعمل فيها من خلف ستائر شفافة وحجبٍ فنية ولغة شعرية تخفي أكثر مما تصرخ.
والجميل في شخصية شوقي بغدادي أنه كان قادرا على ذلك التحول من المظاهرة إلى الاهتمام بالشعر كظاهرةٍ، قادراً بما لديه أصلا من طاقات شعرية كان يرجئها ويستحي منها حين كانت السياسة غالبة عليه.
لقد كسبنا منذ منتصف السبعينيات شاعرا يحتفي بالإنسانِ الحرّ، وبالذات والوجودِ وبالمرأة والعشق وتفاصيل هامشية هي أساس الحياة، وتبلور كل ذلك أكثر ما تبلور في الثمانينيات حتى آخر مشواره.
ويمكن طرح عناوين أعماله الشعرية التي نعتمد عليها في تصورنا ذاك، وهي تبدأ من ديوان (ليلى بلا عشاق) 1979 وتنتهي بآخر ما نشر (بعد فوات الأوان) 2021
وبين هذين الديوانين ثمة عددٌ من الأعمال الشعرية أبرزها (قصص شعرية قصيرة جداً 1981) – (عودة الطفل الجميل 1985) – (رؤيا يوحنا الدمشقي 1991) – (البحث عن دمشق 2002).
في هذه الأعمال ثمة قطيعة شعرية على الأصعدة كافة مع سنوات الشاعر السابقة التي بدأها بـ (أكثر من قلب واحد 1955) و(لكل حب قصة) وهذه الأخيرة صدرت عام 1962 على الرغم من أن شوقي يقول في مقدمتها: "كان من الواجب أن تصدر مجموعة الشعر هذه قبل أعوام، ذلك أنها كانت جاهزة للطبع منذ عام 1955" لذلك نحن نعتبرها من مرحلة البدايات والتمارين الشعرية البسيطة، فتاريخها الذي يشير إليه شوقي هو تاريخ نشر الديوان الأول (أكثر من قلب واحد). ثم إن في المجموعة هذه (لكل حب قصة) أثرا واضحا من لغة وأفكار نزار قباني الذي بدأ يُعرف في دمشق منذ نهاية الأربعينيات. على أن نزار قباني كان أكثر نضجا من شوقي وغيره من شعراء ذلك الجيل، وأكثر جرأة وشجاعة في تناول محرّمات العالم الأنثويّ، فيما بقي الكثيرون يدورون فيما يشبه تكرارا لأفكار الآخرين والأسلاف.
يقول بغدادي في (لكل حبّ قصة مثلا):
"ملء ذراعيّ الهدايا، وفي
عروة صدري راشقٌ فلّةْ
دمشق يا صديقتي العجوز
دمشق يا رفيقة الصّبوةْ
أنا إلى موعدنا سابحٌ
في ضجّة الزقاق والقهوةْ"
هذه اللغة – على جمالها وخفّتها – صدى واضح من لغة نزار قباني.
لكن مع ذلك ما يسجل لشوقي بغدادي في مجموعته هذه أنه على عكس ما يشاع عنه من أـنه انغمس كليا في عالم النضال الشيوعي والهموم السياسية المباشرة، ففي المجموعة حبّ ونساء ومواعيد وغرام ومغامرات عاطفية لشابّ هائم. لكن ما فعله شوقي أنه بعد سنوات كثيرة سوف يعود لعالم الأنوثة وللتفاصيل الحياتية العابرة، ولكن من زاوية اكتمال نضوجه وتخمّر تجربته على نار هادئة، وسوف يقدم نماذج شعرية باهرة تعتبر مثالا يحتذى في بناء القصيدة وهندستها وإيقاعيتها.
وسوف يجد أي دارس موضوعي وناقد لشعر شوقي بغدادي نفسه أمام منعطفات حاسمة مرّ بها الشاعر، ولا بدّ أن يعطي كل مرحلة حقها من التحليل والبحث. لكن ما ينبغي التأكيد عليه أن بغدادي الشاعر الحقيقي الصافي، الشاعر الفنان الماهر، الشاعر الذي استطاع وضع بصمة ذاتية على ملامح الشعر السوري، هو شوقي ما بعد السبعينيات وليس شوقي الخمسينيات والستينيات.
من هنا يسجل لشوقي أيضا أنه لم يهمل تجربته ولم يتركها تتآكل مع الزمن، بل وبكل جرأة ومهارة فنية استطاع تطوير عالمه الشعري رأسا على عقب، بما يشبه الانقلاب الجمالي حقا. في حين قد نجد أن عددا من الشعراء السوريين من جيله لم يستطيعوا تحقيق التطور الفني والتحولات المطلوبة.
ومن خلال قراءتنا لتجربة الشاعر خلال هذه السنوات يمكن أن نسجل المعالم الفنية التالية التي طبعت مملكته الشعرية:
- انتقل شوقي بغدادي من المظاهرة إلى الظاهرة الشعرية كما أكدنا سابقا، وهذا الأمر كان له مقتضياته الفنية قبل وبعد، فكما كان يبشر بالثورة الأممية ويتعاطف كليا مع الرؤية الشيوعية للتاريخ والمستقبل، انتقل إلى التبشير بالإنسان من خلال قراءة أحزانه الصغيرة وأفراحه المتواضعة حتى لو كانت عبارة عن أغنية يسمعها من خلف ستارة صباحية. وذلك يعني فنيا أن اللغة الشعرية سوف تختلف جذريا وتهجر خطابيتها وصراخها، لتقعد تتأمل في العالم بصمتٍ وهدوء ووجد.
- لم يغرق شوقي بغدادي قصائده في أي مرحلة من مراحله بالغموض والإبهام، ويعتبر من الشعراء الذين ينطبق عليهم القول إنهم يكتبون السهل الممتنع، وهذا ما نراه في مراحله الأخيرة وليس في بداياته. لذلك لا يعتبر شوقي من (شعراء الرؤيا) في سوريا الذين كانت اللغة لديهم لغة خاصة وغامضة وذات دلالات قد تصل إلى حدّ الانغلاق والإبهام. أما شوقي فقد كان حريصا على بساطته العميقة والصعبة في الوقت نفسه، وعلى التواصل مع الآخرين في لغته التي يمكن أن نصفها بأنها تمتلك الشيء الكثير من عناصر (التداولية) بحيث تسبح لغته في أسئلة الآخرين وانفعالاتهم الجمالية وتؤمّن لهم متعة ولذّة وحوارا تواصليا. وفي الوقت ذاته استطاع بناء هذه التداولية والتواصلية بفنية عالية وسحرٍ إيقاعيّ لا تغفل عنه الحساسية الشعرية الخاصة. أي لم يعد شوقي يفرط بحيثيات الشعر وشؤونه من أجل الفكرة والآخر، فيما هو ظلّ يحترم قارئه الذي يمكنه التواصل مع شعره حتى لو كان هذا القارئ متوسّط المعرفة بالشعر والفنون.
يقول في ديوانه (شيء يخصّ الروح):
إنني أبحث عن حبّ وهذا الحبّ في غير زماني
وأنا أعرفُ أنّي ساذجٌ أُبدع نصّا فارغاً
يملؤه القرّاءُ من بعدي بآلاف المعاني
إنني أبحثُ عن دائرة الوجه التي تحتضن الدنيا
وعن أرجوحة الشعرِ التي تقذفني
حتى حدود الكون في بضع ثوانِ
وأنا أدركُ أني واهمٌ أصنعُ للناس إطارًا خاليًا
يملؤه الزوّارُ من وحي الدّخان
نرى هنا بشكل لا لبس فيه ملامح فنية وجمالية لم تكن في أعماله القديمة، نرى وعي الشاعر لمسألة تعدد المعاني في شعره حيث يتركها مفتوحة للآخرين، نرى رغبة الشاعر في أن يؤمّن له الشعر مكانا في الكون كله. مع إدراكه في اللحظة نفسها لأنه قد يكون واهما! إنه لم يعد يتمسك باليقين فزمن اليقين تحطّم.
- نوّع الشاعر بغدادي في الأنماط الشعرية فنيا من حيث البناء والشكل، فقد كتب قصائد على إيقاع الفراهيديّ وإن كانت قليلة خاصة في بداياته، وكتب القصيدة القصيرة جدا، وكتب القصيدة الطويلة نسبيا. ولكنه لم يقدم مطولات كبيرة كما فعل غيره من الأصدقاء والزملاء. ويعتبر شوقي بإطلاقٍ من شعراء التفعيلة في الوطن العربيّ، وكان له آراء سلبية وحادة في (قصيدة النثر) تجاوزها في آخر سنواته وطوّر رأيه فيها وصار أكثر قبولا لها وأكثر مرونةً.
- منذ بدايته حتى تلك التي نصفها بالأيديولوجية والساذجة، حرص شوقي على تخليص قصيدته من الثرثرة والاستطرادات والحشو، وهذه كلها عيوب عانت منها تجربة الشعر الحديث ربما حتى الآن في كثير من أمثلته المتدنية فنيا. والثرثرة والاستطراد اللغوي صفات مصاحبة للمواهب غير المقتدرة فنيا وشعريا، وغير المنضبطة وفق قوانين الكتابة الشعرية، حيث يتوهم الكثيرون أن اللغو في اللغة وانفلاش العبارات والصور هو جزء من التجريب الحرّ! لكن ما أقنعنا به شوقي بغدادي أنه بالإمكان أن تجرّب وتجرّب ولكن وأنت تراقب كتابتك وتضبطها، هذا ما جعل شوقي حريصا بشدّة على هندسة قصيدته بعناية وصفاءٍ، واستعمال المواد اللازمة للمبنى والمعنى دون تفريط وإفراط، ودون الوقوع في فخّ الهذيان اللغويّ الذي انتشر بكثرة في تجارب عدد من الأسماء الشعرية حتى تلك (الكبيرة). وهذا مما يسجل بامتياز لشوقي بغدادي. وتلك صفة من صفات الفنان المسؤول عن نتاجه الفني.
- اعتنى بغدادي في مراحله الناضجة بأن أخفى السياسة والفكرَ وراء الشعر والجماليات، لذلك من الصعب أن نقول إن قصائده سياسية أو انشغلت بالسياسة، رغم أن (الشأن العام) حاضر فيها لكن بعد فلترة (العامّ) ليصبح قابلا للخاصّ الشعريّ، وذلك على عكس ما كانه عليه الوضع في مرحلته الشيوعية. وهذا ما جعل شوقي يطوّر حتى من آلية التفكير بالموضوع السياسيّ، فلم يعد يعجب بالأبطال والعظماء، وبات منهمكا بفضح الكائنات المتسلطة التي تشوّه الإنسان والمكان والحلم والعشق وكل شيء. وبالتأكيد هذا فيه خلفية سياسية، لكنها خلفية مبنيّة على حسّ جمالي شعريّ كونيّ.
خلاصة القول إن شوقي بغدادي الشاعر الراحل منذ أيام، حالة شعرية تستوقف الدارس والناقد ليرى فيه مسارا من القصيدة العربية الحديثة بعاديّتها وسذاجتها، وتطوّرها ووصولها مستوى جماليا راقيا من النضج والفعالية. شاعرا أثبت أنه ليس من الضروري حتى تكون شاعرا حديثا أن تمغمغ وتهلوس وتهذي باللغة، وأن بالإمكان أن تكون ذا (رؤية سياسية) محمولة على (رؤيا جمالية) أساسا.