جميعنا عانى يوماً ما من التأثير السلبي للشائعات، خاصة في زمن القلاقل والاضطرابات وما أكثرها في حياتنا، ومعظمنا يذكر الشائعة الأكذوبة التي روجت لها معظم أجهزة الأعلام العالمية قبيل حلول عام "2000" وما زعمته من توقف جميع أجهزة الكمبيوتر في العالم كون برمجتها الداخلية لا تحوي الرقم 2000 مع أن جميع من يعملون في حقل الحوسبة يعلمون أن هذه المعلومة كاذبة ومضللة، لكن سيل التكرار اليومي لهذه الإشاعة جعلت العالم يقف مكتوم الأنفاس، وهو يراقب عقارب الساعة التي تغادر الدقائق الأخيرة من عام "1999" وحين دخل العالم عام 2000 لم يحصل شيء البته، وتناسى الجميع تلك الأكذوبة.
اليوم ونحن نعيش كارثة إنسانية عصفت بعشرات الملايين من سوريين وأتراك، يتكرر المشهد مرة أخرى، حين ضربنا زلزال أو سلسلة من الزلازل المتوالية، فمادت الأرض تحت أقدامنا، وفقدنا ثقتنا بأي مكان نأنس إليه ونأمن فيه، وتزلزلت النفوس، ففي كل ساعة هناك من يتنبأ بزلزال آخر آت، والأرض المتصدعة لم تكذب خبراً، فهي لم تتوقف عن التحرك المفزع لكن بهزات ارتدادية معظمها لا يحمل خطراً ذا بال.
مما يلاحظ في الكثير من الشائعات اليوم ويكسبها فاعلية كبيرة أنها مجهولة المصدر أو محالة لعدة مصادر في آن واحد
كثرة الشائعات وتقارب محتوها يخلق بلبلة وصراعاً، بين خبر يقارب التواتر في كثرة تكراره، وأمل يعمل بأقصى طاقته لتكذيب هذه الشائعات، ليعيد للنفس التي أنهكها القلق والترقب، بعضاً من السلام المفقود، ويعز من قوة تلك الشائعات ومفاعيلها السلبية التي تساوي قوة معظم مصادر المعلومات الرائجة التي تزخر بها منصات التواصل الاجتماعي والكثير من الفضائيات التي لا تني تمطرنا كل دقيقة بسيول من المعلومات المتضاربة التي لا نملك لترجيحها سبيلا.
مما يلاحظ في الكثير من الشائعات اليوم ويكسبها فاعلية كبيرة أنها مجهولة المصدر أو محالة لعدة مصادر في آن واحد بحيث يصعب على الإنسان العادي تحري دقة المصدر ورصانة معلوماته وكثيراً ما نقرأ "ورد عن مركز أبحاث، دون تسميته" أو قال أحد أهم خبراء الكوارث!!!" أو "هناك تأكيد من جهات مختصة على أن ..."، كذلك هشاشة القنوات التي تنقل الشائعة وهي اليوم أكثر القنوات شيوعاً وكثيرا ما نجد الخبر ذاته وقد نقل حرفياً أو أعيد إنتاجه مع الحفاظ على المحتوى ذاته، وأكثرها سيطرة اليوم على دقائق حياتنا هي شبكات التواصل الاجتماعي مع تنوعها وشدة سيطرتها وانتشارها، كذلك نلمس وحدة الرسالة أو المضمون المراد ترويجه في جوهر العشرات بل المئات من الرسائل التي تردنا من هنا وهناك وكأنها تدفعنا دفعا باتجاه محدد وتسوقنا كما يساق القطيع، وبالطبع فإن المستهدف من سيل الإشاعات هذه غالبا ما يكون عموم الجماهير التي يراد توجيهها وإلهاؤها وإشغالها وتحضيرها لتقبل فعل ما، وأهم من هذا جميعا الحصول على صدى هذه الإشاعة التي يريد صانعها أن يتلقاه، كل هذا في الإشاعات الممنهجة التي تدار زوبعتها بعناية فائقة، ليحصد منتجوها ومروجوها مكاسب لا تظهر بادئ الأمر، وما أكثر المرات التي استجاب بها الناس لشائعة فقد منتج ما أو ارتفاع سعره أو انخفاضه أو احتمال فقده، وقد تعمد بعض الجهات لنشر إعلان رسمي عبر وسائل التواصل عن إجراء بعينه يخدم المستهلك، لكن حين تحاول تجربته تجده زعماً عاريا عن الصحة.
يبقى الغرض الرئيس للشائعات حرف الجماهير المتلقية عن حقيقة ما يجري وتضخيمه وإشاعة القلق واستثماره
تشكل الشائعات جزءاً رئيسياً من الحرب النفسية التي يطلقها منتجو الإشاعات ومروجوها، ففي أزمتنا السورية المديدة لمسنا مئات المرات كيف تصدِّر الأجهزة الأمنية شائعات وتتلقف صداها بعناية فائقة، كان هذا يحصل باستمرار قبل الثورة وبعدها، وفي كل مرة تكتسب تلك الأجهزة الأمنية أدوات جديدة في طريقة إدارة المشهد وتحريك الجماهير، ولا تملك تلك الجماهير حصانة أمام سيل الإشاعات الممنهجة تلك، فالخوف من أن تكون تلك الإشاعة صحيحة هذه المرة أقوى من القدرة على نقدها وتفكيكها، وربما ترد الشائعات على شكل أخبار محتملة، يطلقها منتجها بشكلٍ رسمي، وعبر مواقع إخبارية صريحة، كأن يزعم رئيس دولة أو حزب أو رجل أعمال، أنه يدرس فكرة جعل الإنترنت أو البث الفضائي لشبكة ما مجانياً لجميع مشتركيه القدامى، ولن يستطيع أحد تكذيبه أو محاسبته لأنه روج للخبر كاحتمال أصلا لكن المتلقي استقبله كما لو أنه خبر متحقق.
يبقى الغرض الرئيس للشائعات حرف الجماهير المتلقية عن حقيقة ما يجري وتضخيمه وإشاعة القلق واستثماره، وتبقى قلة قليلة من البشر يصعب سوقها بحبال الشائعات، لأنها تمتلك حسا نقدياً، إضافة لاعتمادها عبر تجارب وخبرات متراكمة، على مصادر متينة في معلوماتها، وتبقى الشائعات عند عموم الناس، مصدراً قلقاً تبنى عليه حياتهم ومواقفهم، وليس هذا حكراً على مجتمعات بعينها، وإن كانت المجتمعات الأكثر تعليما وتثقيفاً أكثر حصانة من غيرها، لكن لو حفرنا عميقاً لوجدنا حتى المجتمعات الحديثة لها منظوماتها المعقدة من الشائعات والخرافات التي ما تزال تحكمها، وكأنها حاجة عميقة لدى معظم البشر، في الاستجابة والركون لما هو استثنائي حتى وإن كان كذباً.