الابن السيئ.. فصول من الوجع السوري

2024.07.10 | 06:54 دمشق

582455555555552
+A
حجم الخط
-A

في فيلم وثائقي طويل مشحون بساعاته الثلاث، بكل تضاريس الوجع السوري المعتق في خوابي الروح، يأخذنا فيلم "الابن السيئ" في استعراض لبانوراما مؤلمة عبر تاريخ مديد من ممارسة العنف الممنهج في سوريا. يغمسنا المخرج، غير مختارين وغير قادرين على الانسحاب، في رحلة المأساة السورية، مستعرضاً حكايتنا مع القمع، بدءاً من جذور العنف، وتدجين المجتمع السوري وعسكرته ثقافياً ومؤسساتياً وتربوياً، ليكون كل طفل وكل فتاة وكل شاب فيه جندياً بيدقاً يخدم الإله الحاكم الفرد.

يبدأ الفيلم ذلك من التجربة الكورية الشمالية، التي ربما تعد من أسوأ نماذج استعباد الأمم في التاريخ الحديث، مروراً بالتجربة الروسية، والتجربة الرومانية ونموذجها الأقبح نيكولاي تشاوتشيسكو، وصولاً إلى تجربة حكم الملالي في إيران، وما خلفته من مآسٍ وتمزيق في كل بقعة وصلت إليها ذيولها، وتحالف حافظ الأسد مع جميع هؤلاء وإنتاج نموذجه المتفرد في تعميم القمع وكم الأفواه، وقتل كل ما هو جميل في حياة الناس البسطاء.

ليس ثمة اختلاف حول الدور الكبير الذي يلعبه الأدب والفن في التأثير على المجال العام وصياغة الآراء وتحفيز الاتجاهات، كما أن له دوراً جليلاً في إنصاف المهمشين، ومنح باقات من ورود الأمل بالعدالة الغائبة التي يُحرم منها المضطهدون.

من هذه النقطة بالذات جاءت أهمية الفيلم الجديد للمخرج السوري غطفان غنوم، الذي عرفه جمهوره من خلال نجاحه المتميز والجميل في مسلسل "ابتسم أيها الجنرال" للسيناريست الكبير سامر رضوان.

"إنهم يمسحون ذاكرتنا وهناك مخابر تعمل بشكل دؤوب على محو تفاصيل تلك الذاكرة".

في فيلم "الابن السيئ" يمتزج الخاص (حياة الراوي الشخصية) بالعام (تطور هيمنة القمع في الحياة السورية). بالرغم من فرار المخرج لسنوات أمضاها في دراسته خارج البلاد، متخففاً بقدر ما من سطوة الأنظمة الأمنية، إلا أنه ما يلبث أن يصطدم بما تخلفه دولة القمع من فساد مسرطن في جميع مؤسساتها، فلا يعترف بشهادته في الإخراج السينمائي، وتهدد سنوات شبابه التي أمضاها في التحصيل العلمي بالضياع، شأنه في هذا شأن آلاف الموهوبين والمبدعين الذين تقتلهم الأنظمة الديكتاتورية باستمرار. فوجودهم يشكل خطراً على القبح المكرس، ويشعل أزمات من المطالبة بحرية الإنسان وإنصافه، والأنظمة القمعية عموماً تشترك في محاربة هؤلاء.

لا يستطيع المخرج تجاوز بنيته الثقافية التي تشكلت عبر عقود من الانفتاح على الثقافة العالمية، والتي حفلت بالعديد من الروايات والأعمال العظيمة، التي حُول بعضها إلى أفلام وأعمال عظيمة. فيوظفها في عناوين الفصول اختزالاً لما تحويه تلك الأعمال من دلالات عميقة ترسخت في الوجدان العام لشعوب وثقافات متنوعة. فها هي رواية "ذهب مع الريح" كما ذهبت آمالنا بالحرية والعدالة، وها هو فيلم "من أجل حفنة دولارات" و"الرقص مع الذئاب" و"صراع العروش" و"مدينة الرب" و"صائد الغزلان" و"حياة الآخرين".

هذا الفيلم الأخير يجسد تسلط السلطة القمعية بأقذر صورها على تفاصيل الحياة اليومية والمنزلية الخاصة لأستاذ ومخرج مسرحي وصديقته التي تعيش معه.

جميع تلك الروايات والأفلام أراد المخرج أن يعيدنا إلى تفاصيل مآسيها ويختزل بها عوالم عاشها السوريون ويعيشونها حتى يومنا هذا.

وفي مشهد تالٍ، ينضم صوت الروائي السوري نبيل الملحم الذي تنضح رواياته وروحه بكل تفاصيل الأسى اليائس، لينتهي إلى مأساة وفجيعة تتلخص في "إنهم يمسحون ذاكرتنا وهناك مخابر تعمل بشكل دؤوب على محو تفاصيل تلك الذاكرة".

تلك الذاكرة التي ستكون يوماً ما وثيقتنا الجمعية الأقوى، التي تدين هذا الطوفان الهائل من القبح والدمامة ومن إجرام السلطة بحق شعبها. هناك حاكم يقتل الأطفال والنساء والكهول ويدمر ويقصف الكنائس والمساجد والمخابز والمشافي.

هل هناك بؤس فوق هذا؟ نعم، البؤس الأشد هولاً أن ننسى جميع هذا، وتضيع تلك الأرواح هباءً، وينجو القاتل بجريمته، ويصبح رواية من روايات متضاربة عما جرى في سوريا عبر عقود. يعيد غطفان غنوم صرختنا التي تقارع اليأس "ماذا يبقى إذا نحن نسينا؟".

يوظف المخرج غطفان غنوم ببراعة سلسة ذلك التواشج المتين بين السردية التوثيقية والسردية الشخصية التي تستمد نسغها أصلاً من ركامات هائلة من الحكايات التي تتداولها الألسن كل ساعة عن فظائع ما عاشه شخصياً وما عاشه السوريون عامة في ظل هذا النظام القمعي المتغول. يحكي حكاية ذلك المخرج الشاب الذي تخرج مشحوناً بشغف كبير يتلاحم فيه ذلك التشوف العميق لقيم الجمال والعدالة والحرية، بالحماسة الفنية المشتعلة في روحه، والتي كانت وراء إصراره العنيد على النجاح، بالرغم من عشرات العقبات التي يضعها النظام الأمني أمام المبدعين الصاعدين، كيما يقطع عليهم السبيل ليكونوا أصواتاً حرة تتخطى حدود المسموح به.

هذه السردية الشخصية التي تتشكل بمنزلة شهادة معززة بآلاف الحكايات التي تحكي الوجع السوري المديد، لا تخرج الفيلم والنص عن تصنيفه التوثيقي الأهم، والذي نحلم أن يرقى ليكون واحداً من أهم أدوات الضغط والإدانة بالتشارك مع نصوص وشهادات وأفلام وروايات وأعمال أدبية وفنية مصاحبة. لا بد أنها في يوم قريب ستنال من مرتكبي الجرائم بحق الإنسانية في بلدنا سوريا.

يقدم هذا الفيلم تفسيراً وافياً وفائضاً عن الحاجة لمن يريد فهم المعضلة السورية.

في ربعه الأخير، يسهب غطفان غنوم في التفاصيل اليومية للثورة السورية التي ولدت من جرأة أطفال درعا ومن تراكم القهر المكبوت في الصدور على مدى عقود، ليقول للعالم الذي لم يَعِ إلى يومنا هذا لماذا ثار السوريون على مستعبديهم.

بعد هذا الفيلم يصبح السؤال عن سبب اشتعال الثورة في سوريا ضرباً من ضروب التفاهة واستسخاف العقول وقتل الضمائر. يقدّم هذا الفيلم تفسيراً وافياً وفائضاً عن الحاجة لمن يريد فهم المعضلة السورية.

أما حزب "كنا عايشين" فليعيدوا النظر مرة أخرى حين تصحو ضمائرهم في تلك الحياة التي لم تشبه الحياة التي تليق بالسوريين وبكل إنسان يوماً.

يختم المخرج حكايته الطويلة وهو يحضن طفلته ويبتسم ويغفو بطمأنينة قربها، ليقول ما يزال الحلم بغدٍ أجمل قائماً، وربما ستكون هذه الطفولة الناجية ببراءتها هي أملنا الوحيد.

نال الفيلم جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان (سانتا مونيكا) في مدينة كاليفورنيا في الدورة التاسعة عشرة، كذلك حاز جائزةَ أفضل فيلم وثائقي في مهرجان بالي بإندونيسيا، وهو اليوم يتنافس على جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في مهرجان العاصمة المقدونية سكوبيا. ويرجح أن يكون فيلم العام 2024 في قائمة أفضل الأفلام الوثائقية الطويلة.