سلمية الثورة وعسكرتها

2024.07.26 | 06:40 دمشق

آخر تحديث: 26.07.2024 | 06:40 دمشق

5433333333333
+A
حجم الخط
-A

طال العزف على وتريات فضيلة الحراك السلمي، وصار الترويج له بدهية من البديهيات التي يقفز العقل فيها طائعاً، فوق قنطرة الحجج اللازمة لتعزيزها أو إثباتها دونما عناء، حتى صار مفهوم أهمية الحراك السلمي وتفرده بالمشروعية قضية مسلماً بها لا يجرؤ على معارضتها أحد، وغدت شيطنة النضال المسلح تكررها الأقلام والأفواه كيفما اتفق، وصارت عبارة عسكرة الثورة تشي بالعقدة التي انحرفت فيها الثورة عن مسارها المتخيل.

نسي الجميع كيف كنا، "يسار ويمين"، نتغنى بهذا النضال الذي كان على مدار عقود طويلة من التاريخ الحديث فضيلة وبطولة يُحمد قادته ورجاله، وتُغنى به القصائد والأشعار، وحتى يومنا هذا ما يزال الكثيرون يرددون بكل حماسة، أغنية الشيخ إمام "جيفارا مات جيفارا مات. مات المناضل البطل فوق مدفعه جوا الغابات".

كثيراً ما يبادرنا عازفو لحن الحراك السلمي وجدواه، بالحكاية الجميلة عن كفاح غاندي في مواجهة الاحتلال الإنجليزي للهند، متجاهلين عن جهل أو عمد حقيقة صارخة في وضوحها، أن بريطانيا التي قتلت خلال أربعين سنة ما يزيد على مئة مليون هندي قتلاً وتجويعاً ونهباً للمقدرات، ما كان لها أن تخرج من الهند حتى لو تضاعف هذا الرقم، لولا أن الظروف الدولية أرغمت بريطانيا العظمى على الخروج عقب الحرب العالمية الثانية وإعادة رسم الخرائط الدولية وتوزيع مناطق النفوذ التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية.

حكاية غاندي هي إحدى السرديات التي اخترعها الإعلام الغربي خدمة لمؤسساته الاستعمارية المستمرة إلى يومنا هذا.

كذلك أسهم صعود القومية الهندية في تنشيط حركة الاستقلال التي اكتسبت زخماً على مدى سنوات القرن العشرين، كذلك أسهم الضغط الدولي بعيد الحرب العالمية الثانية، حيث ارتفع الصوت عالمياً للمطالبة بإلغاء الاستعمار. وبات من الصعب على بريطانيا تبرير استمرار حكمها للهند، أو تحمل تلك الكلفة الباهظة، وعززت الحرب الباردة من تحول بريطانيا في الهند من مستعمر مكروه إلى السعي لكسبها كحليف منتظر في آسيا.

حكاية غاندي هي إحدى السرديات التي اخترعها الإعلام الغربي خدمة لمؤسساته الاستعمارية المستمرة إلى يومنا هذا، في امتصاص خيرات أمم برمتها، وهو يعللها بمنجز ديمقراطي موهوم يختصر بجولات انتخابات شكلية لا تفعل فعلها في تغيير حال البلاد. هذا الاستعمار الحديث يريد شعوباً تقتصر مقاومتها على المعارضة السلمية وبالتالي معارضة منزوعة المخالب، تتيح له في أسوأ الأحوال جرهم إلى جولات تفاوضية طويلة ومتباعدة يحصلون في نهايتها على أكداس من الورق المحبر لا يجد من يقرؤه، يغرقهم من خلالها بالتفاصيل كما قال وزير خارجية النظام السابق "وليد المعلم" وهذا ما حصل بالضبط فالمعارضة كما هو مفترض أصلاً لديها هدف وحيد وهو إسقاط النظام الذي يشكل روح الفساد ومنبعه، أما الباقي فتفاصيل تأتي في حينها.

هناك خلط مقصود بين مشروعية النضال المسلح وبين فساد قادة الفصائل المسلحة وتمزقها، اللذين كانا عاملاً مهماً من عوامل فشل أو إفشال الثورة السورية، فالأنظمة الديكتاتورية الحاكمة وفي طليعتها ونموذجها الأكثر وحشية النموذج السوري، الذي هندس إحكام قبضته على الشعب السوري منذ خمسين سنة أو تزيد، لم يكن ليسمح بولادة جمعية أهلية تعنى بالتصوير الضوئي، أو بمجموعة شبان ينظمون خدمة تنظيف الأحياء التي أهملتها البلديات المحلية، هذا إذا ضربنا صفحاً عن الإرادة الدولية في قتل الكفاح المسلح في مهده، منذ بداية الثورة السورية، وتحويل مساره من قوة تعزز من الحراك الهادف لإسقاط النظام، إلى قوى وفصائل صغيرة تتناحر على مكاسب وامتيازات تافهة فتنحرف عن غايتها الأولى.

ومع كل هذا ما زال معظمنا حتى من دعاة السلمية المزعومة يتغنى بأبطال رحلوا كالمقدم حسين هرموش والعقيد يوسف الجادر "أبو فرات" وغيرهم كثير.

كيف نشأ وهم أن نظاماً أمنياً بوليسياً عسكرياً نفذ الكثير من المجازر بحق مدنيين عزل في حلب وحماة وجسر الشغور وفي سجن تدمر، حين عمد إلى قتل ما يقارب الألف سجين أعزل بدم بارد وخلال ساعات قليلة، وأخفى جثثهم في مقبرة جماعية في أحد وديان تدمر، كيف لمثل هذا النظام أن تجالده سلمياً وهو أقصى ما يحلم به نظام كارثي كنظام الأسد، بالرغم من جماليات الحديث عن ثورة سلمية، لا تضحي بدماء أصحابها قبل دماء أعدائها، إلا أنها دعوة تصلح لإدارة الصالونات الأدبية والأحلام الوردية، لكنها لا تصلح لتدوير عجلة التاريخ إلى الأمام.

ربما كان من الممكن أن تصلح لو أن لها ظهيراً من القوة الأممية والدولية تحرص على إنفاذ القوانين التي أقرتها الأمم المتحدة على سبيل المثال. وخير شاهد صارخ قريب، تلك القرارات الدولية التي اعترفت بحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة ودانت الكيان الصهيوني بعشرات، بل بمئات الجرائم والمجازر، والتي بقيت نتائجها إلى هذه الساعة لا تعدو حبرا على ورق، وما يزال مرتكبو تلك المجازر والجرائم طلقاء، بل ويتبوؤون مقاليد الحكم والتحكم بمصائر شعوب ترزح تحت نير استعبادهم.

لقد قدم لنا التاريخ الحديث عشرات النماذج الناجحة التي أفضى بها الكفاح المسلح إلى سقوط أنظمة قمعية وإلى اندحار الاستعمار عن بلاد كثيرة.

بضع نقاط يمكن ملاحظتها عند التعرض لمشروعية الكفاح المسلح، من أهمها أن الكفاح المسلح يستنهض همم الناس فرادى للانضمام لحركة شعبية واعدة تناجز الأنظمة بسلاحها، كما أنه يوقظ وعي الغافلين والخانعين والمنشغلين بالسعي اليومي المنهك عن قضاياهم الرئيسية بالحرية والعدالة. المغالطة التي تسربت إلينا أن النظام يقوم بجر المعارضة إلى الملعب الذي يبرع فيه مغالطة سطحية تخالف ما تواطأت عليه الأفهام منذ قرون، أنه "لا يفل الحديد إلا الحديد" وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بها، وإلا فما السابقة التاريخية التي نجحت بها قوة معارضة بإسقاط الديكتاتورية سلمياً؟ لم يسق لنا التاريخ المعاصر مثالاً، والقياس على تجربة غاندي في الهند قياس مخاتل، فالديكتاتور أشد شراسة وضراوة من المستعمر، والمثالان متباينان لا يصح قياسهما بمقياس واحد.

نقطة أخرى هي عدم جدوى الثورة السلمية التي أعد لها النظام ما يكفي من الحلول إن هي حدثت. وقد أثبتت الوقائع في عشرات البلدان المشابهة أن الطرق السلمية لم تجد أي نفع إلا إن تم دعمها بقوة خارجية، وقد قدم لنا نظام الأسد عشرات التجارب التي لم يردعه فيها أي رادع عن المبالغة والتعسف المفرط في استخدام أقصى درجات العنف المسلح والجرائم وارتكاب الإبادة في مواجهة خصومه، الأمر الذي يجعل من اللجوء إلى الكفاح المسلح سبيلاً ضرورياً وربما وحيداً كوسيلة للتغيير وإجبار الديكتاتور على التراجع، مع أننا ونتيجة تراكم الخبرات والدروس مع نظام الأسد الأشد قمعية في المنطقة العربية أن هذا النظام ببنيته المتحجرة لا يملك القدرة على اللجوء إلى تسويات سلمية مع معارضيه وحتى لو افترضنا أنه أراد ذلك جدلاً، لأنه بهذا يسير مختاراً نحو حتمية سقوطه، وهو ملتزم بمقولة سان جوست "هذا الرجل يملك أو يموت".

لقد قدم لنا التاريخ الحديث عشرات النماذج الناجحة التي أفضى بها الكفاح المسلح إلى سقوط أنظمة قمعية وإلى اندحار الاستعمار عن بلاد كثيرة، كالثورة الجزائرية، كما قدم لنا نماذج بائسة كثيرة في إخفاق الحركات السلمية في إسقاط الدولة العميقة التي سرعان ما انقلبت على الحركات السلمية وأعادت البلاد إلى حالة أسوأ من سابقها، وأحكمت قبضتها وكمت الأفواه وكدست الآلاف في المعتقلات.

ولم ينكر المشرعون على مر التاريخ الحق في الدفاع عن النفس سواء كان هذا على مستوى الأفراد أم الشعوب، فلماذا نجدنا اليوم أمام حالة طاغية في إجرامها المسلح نحلم بجدوى الحراك السلمي في مواجهتها؟ هذا الحراك لن ينتج إلا مزيداً من الطغيان واستباحة حقوق الشعوب وهو شديد الاطمئنان أن المقاومة التي سيواجهها مسلحة بأغصان الزيتون وحسب.

كل ما سلف لا يخلق تبريراً للفساد الكارثي الذي صبغ الشطر الأكبر من الفصائل المسلحة التي عبثت بالمشهد السوري وسرقت ثورته، وربما بات بعضها ينافس النظام الذي ثار السوريون عليه فساداً واستبداداً، وهذا يحتاج لثورة مضاعفة. ربما كان التحول من قوة ثورية مسلحة موحدة تتحرك وفق رؤية وقيادة واحدة، إلى تشظي هذه القوة إلى فصائل معظمها متكسب ومنتفع ويلبي أجندات خاصة، هو رأس الفساد وموطن الخلل الأكبر، لكن هذا كله لا يغير من مشروعية مواجهة الديكتاتوريات بالنضال المسلح، ولن يجري أي تغيير في مدى منظور بالطرق السلمية الحالمة.