أن تقول ميشيل في مجتمع سوريا الثورة وفي مستوى المعارضة فأنت بلا شك تقصد ميشيل كيلو، الاسم الأول يكفي للدلالة على صاحبه.. القامة الكبرى في عالم السياسة السورية لما يزيد على نصف قرن من الزمن.
والسياسة مثل أي علم أو حرفة أو مهنة في العالم يمكن دراستها وتعلمها بممارسة طويلة لكنها لا تفتح مغاليقها إلا لمن أُعطوا بالفطرة موهبة السياسة..
والموهبة شيء فطري كما هو معروف، فلا يمكن اكتسابها أو تعلمها، وإن كان من الممكن تطويرها وصقلها لتصبح أكثر قوة وتأثيرا وحضورا..
وقد يعطى الإنسان في حياته موهبة واحدة، وقليلون جداً من يُعطَون موهبتان أو ثلاث مواهب.
فالسياسة إلى جانب كونها علم فهي فن أيضا، فأنت لتصبح سائق سيارة لا بد لك من الحصول على شهادة قيادة مع أنك أيضا يمكنك تعلم القيادة دون الحصول على شهادة، لكنك في الحالتين تحتاج إلى الحدس وحسن التصرف ورباطة الجأش في المآزق وأشياء كثيرة تجعلك في مأمن على الطريق وتجنبك أخطاء وتهوّر الآخرين، ولهذا فقلة من السائقين لا يرتكبون أي مخالفة أو يتورطون في حادث سير.
السياسي إذاً يحتاج إلى ثقافة عامة ودراسة لا تتوقف، للجوانب التي يهتم بها، إلى جانب ممارسته المستمرة للعمل السياسي بأنواعه الحزبي والاجتماعي التواصلي والسياسي- السياسي المحض، سواء بالتفاعل مع الخصوم أو التضامن مع الحلفاء، ومن ذلك اتخاذ موقف السكون، فالصمت والانسحاب المحسوبان بدقة هما أحد أنواع السلوك السياسي.
سياسة ما بعد الثورة، والسياسة كما مارسها ميشيل كيلو:
مارست معارضة ما بعد الثورة السياسة بأسلوب مراهقين مشبعين بالشعارات والإيديولوجيات، يقودون كياناتهم السياسية على طريق باتجاهين لا يرون فيه سوى اتجاه واحد فإذ بهم واحد بعد الآخر يسقطون في فضائح، بعضها مروعة وبعضها يبعث على السخرية، إنما كلها تسبب للسوريين الألم.
ورغم أن كيلو كثيرا ما كان يؤكد على أن الأحزاب لم يحن أوانها بعد، لكن هذا لم يحل دونه وممارسة السياسة، عبر تشكيله عددا من الكيانات السياسية. السياسة عند ميشيل كيلو حالة وظيفية، فكل المجموعات والكيانات التي أسسها إنما أسسها لدور محدد مؤقت، أي إن هذه المجموعات كانت وسيلة لتحقيق غاية، قد تكون مؤقتة بدورها، لذا يمكن تسميتها بغاية صغرى (في مقابل غاية كبرى هي تحقيق الديمقراطية وإنهاء الاستبداد).
وهذا مفهوم السياسة الحديثة وهو بالطبع مفهوم غربي أميركي على نقيض من مفهوم السياسة الشرقي حيث الأحزاب والكيانات السياسية تتأسس لغاية نبيلة فإذ بها -الأحزاب والكيانات- تصبح هي الغاية، وهو ما يبرر عند زعمائها بقاءها وبقاءهم "إلى الأبد"، حيث تتفرغ تلك الأحزاب والكيانات لطمس وتهميش وقتل كل ما هو نبيل!
السياسة بمفهومها الأول تكتيك وممارسة لتحقيق غاية صغرى، فهي تؤسس وتعقد تحالفات سياسية ثم تفك تحالفاتها لتبني تحالفات جديدة وهكذا.. إنها تستعير من حرب الأنصار التي لا تعرف الحشود النظامية والعقيدة القتالية النظامية تكتيك "اضرب واهرب"، لهذا يمكن القول إن هذا المفهوم وهذه الممارسة هما حيويان متجددان متحركان وفقا للظروف.
السياسة بمفهومها الثاني التقليدي الستاليني ثابتة جامدة بطيئة أبدية تهضهم أعضاءها في آلتها الكبيرة آلة الحزب والإيديولوجيا والقيادة السياسية، وأخطر ما فيها أنها تمنح الثبات و"السُبات" لكل من الإيديولوجية والقيادة صفة المبدئية والالتزام والبطولة.
السياسة بمفهومها الأول، وسيلة، فهي لا تعترف إلا "بإيديولوجيا" واحدة و"عقيدة" ثابتة هي إسقاط الاستبداد وتحقيق العدالة والحرية (حتى الديمقراطية ليست سوى مفهوم جامد ومُبْتسر لهاتين القيمتين الهدفين) لذلك فالسياسة هنا "حالة حيوية" تعمل بشتى الطرق ومختلف الوسائل -التي قد تبدو متعاكسة أو متناقضة- لتحقيق هدفيها، العدالة والحرية.
أما السياسة الثانية فهي حالة جامدة لأنها مشخّصة في الحزب والقيادة التي غالبا ما تكون قائدا زعيما، حيث تتحول السياسة في هذه الحالة إلى غاية وعبادة وإلى طقوسية صنمية.
حيوية السياسي الشيخ:
على خلاف النوع التقليدي من السياسة الطقوسية كان حال ميشيل كيلو حال المثقف المناضل الحيوي الذي يبني هيكلا أو كيانا سياسيا كل بضعة أعوام فإذ به يهجره بعد حين، فلا يلبث برهة حتى يقدم على بناء هيكل أو كيان جديد.
بالفعل ماذا يمكن أن نسمي هذه الحالة الفريدة من نوعها في السياسة السورية؟.. هل هي حالة تخليق سياسيّة تعوّض حالة المنع المديد للأحزاب والحركات السياسية؟.. أم هي حالة تعويضية بسبب كراهية الجيل الجديد للأحزاب وعدم قدرة الشباب على الالتزام؟ هل هي تعويض عن الكفر بالأحزاب والتجربة الحزبية؟ تلك التي على الرغم من أهميتها وضرورتها الحتمية غير أن لها مثالب ليست بالقليلة في الحالة السورية، حيث السوريون وفي طليعتهم المعارضون الشرفاء يعيشون تحت حكم الإرهاب البوليسي المخابراتي.
ميشيل كيلو في هذه المسألة هو وحده جبهة جيش يختصر في شخص، واجه جبهة النظام وجيش المخبرين، وجماعة الذل والخوف والجهل.
طوال عقدين من الزمن كان ميشيل كيلو بمثابة دينامو الحركة السياسية داخل جبهة المعارضة إلى جانب الزعيم التاريخي المعارض رياض الترك في مواجهة تعطيل النظام للحياة السياسية، من جهة، ولاحقا بعد الثورة، واجه وحده تقريبا - مع عدد قليل من المعارضين القياديين، كل من طرفه استئثار الائتلاف ومؤسساته بالسياسة السورية المعارضة.
في ذكرى غيابه الأولى التي تصادف يوم 19 نيسان أبريل، لا يسعنا إلا أن نقول رحم الله أستاذنا ميشيل كيلو وإنّا على طريقه لسائرون..