يوماً بعد آخر يضيق أفق الأمل ونفقد آخر خيط رفيع تمسكنا به، ما يقارب الأسبوع مضى على وقوع الكارثة التي حولت البلاد إلى مجلس عزاء كبير، لكننا ما زلنا نعجز عن مواساة بعضنا البعض وتخذلنا القدرة على التعبير ونعجز عن الصراخ.
لم نمتلك الوقت للعويل كان علينا إنقاذ إخوتنا ممن بقوا تحت الأنقاض لمنحهم فسحة يتنفسون من خلالها بعد أن أطبقت جدران هذه البلاد على صدورهم، ربما لم ننجح تماماً وعجزنا عن إنقاذ كثيرين ذهبوا ضحية تلك الكارثة، لكننا ومع كل جسد أخرجناه حياً كان أو ميتاً كنا نزيل غبار عقود عن أكتافنا.
نحن من تلك البلاد، البلاد التي حكمها خونة ومندسون وعملاء وسفاحون وصبوا جام حقدهم عليها فطمسوا هويتها الثقافية والحضارية، ونهبوا ثرواتها وسجنوا أبناءها وأحكموا قبضتهم على رؤوس ساكنيها وأفواههم.
ما الذي اقترفه السوريون حقاً حتى يصبحوا ملعونين هكذا، عقود تحت حكم عسكري في دولة بوليسية استخدمت أبشع الأساليب لإحكام سيطرتها وتقويض نفوذ المعارضين، أكملوا مسلسلهم الإجرامي بسنوات من التهجير والموت المستمر على يد نظام لم يحرك العالم ساكناً لإزاحته وإدانته، وسط صمت مخيف على مجازره وانتهاكاته.
أصوات الاستغاثة اخترقت حاجز الصمت طالبة العون مراراً وتكراراً على أمل أن يستجيب العالم للنداء في النهاية
لم ترحم الطبيعة السوريين أيضاً وقوبل وجودهم بالرفض في دول الجوار التي لجؤوا إليها، ثم وقعت كارثتهم الأخيرة ودُفنوا أحياء تحت الركام، لكنهم مرة أخرى كانوا في منأى عن نظر العالم ورحمته.
أيام قليلة مرت كأنها سنوات على أولئك الذين ينتظرون بصبر أن يسمعوا خبراً عمن فقدوهم تحت الركام، وساعات مضت كأنها دهراً كاملاً على أولئك الذين خنق الركام صدورهم وملأت الأتربة حناجرهم.
أصوات الاستغاثة اخترقت حاجز الصمت طالبة العون مراراً وتكراراً على أمل أن يستجيب العالم للنداء في النهاية، كانت أعلى من صوت طائرات وقوافل الإغاثة التي اختارت ألا تعبر الحدود بحجج سياسية وقانونية ضعيفة تاركة السوريين لمصيرهم المحتوم، المصير ذاته الذي تركتهم له منذ سنوات.
انقطع الأنين بعد أيام، تاركاً قوافل المنتظرين في صمت مهيب وحزن فاق مثيله، غابت لهفة الرجاء وخاب أمل الانتظار مثل العادة، لم تتمكن فرق الإنقاذ المحلية التي شكلتها الخوذ البيضاء أو المجموعات الأهلية التي نظمت نفسها لتستطيع اللحاق بإنقاذ كل الأرواح التي تستنجد تحت هذا الكم الهائل من الأنقاض، فواجه السوريون الحقيقة مرة أخرى، حقيقة أنهم وحدهم حتى النهاية وأنه ليس للسوري إلا السوري.
أدرك هذه الحقيقة المؤيد والمعارض على حد سواء، لمسوا الخذلان الذي تعرضوا له من مؤسساتهم وممثليهم وأنظمتهم وقادتهم، تبينوا العراء الذي يحيط بهم وأدركوا أن عليهم أن يغطوا عريهم بأنفسهم وألا ينتظروا الرحمة والعون من أحد، كانت تلك اللحظة الحاسمة الكاشفة للتلاعب السياسي الذي خضع له السوريون ليس بعد الثورة فحسب بل قبل ذلك بعقود.
لقد كانت السلطة السياسية المجرم الحقيقي بحق السوريين لا بقبضتها الأمنية والاستبداد والتوحش الذي حكمت بهما البلاد فحسب، وإنما بترسيخ حالة الشقاق بين السوريين وبث بذور التفرقة وقطع عُرى التواصل بين مكونات الشعب بترهيب الناس من بعضهم البعض، لتمويه مصدر الرعب الحقيقي وإخفاء معالم الجريمة التاريخية التي يرتكبونها في حقهم.
تعمد النظام السياسي بعد استلامه السلطة إحداث شقاق سوري سوري، غذاه لسنوات ليتمكن عن طريقه من طمس حقيقة التآخي التي عاشها أبناء بلادنا قبل وجوده، لقد استخدم أساليب الاستعمار وساد بتفرقة فئات الشعب بعضها عن البعض الآخر واستطاع أن يدير الدفة لصالحه على الدوام بدعم عالمي مبطن يدّعي عكس ما يفعل.
لم يُمنح السوريون فرصة للاقتراب وإلغاء الحدود فيما بينهم وربما اختبر جيلنا هذه الحقيقة جيداً، كنا مشغولين بصد كرات الاتهام والجري خلف المناطق الآمنة ولقمة العيش.
صدق السوريون ببساطتهم المعهودة كذبة الإرهاب والتهديد القومي الذي يحيق بالبلاد ويريد بها شراً، لم يستطع البعض تقبل أن تكون تلك لعبة خبيثة تستمر السلطة في لعبها وتغير أبطالها بحسب الأحداث، كانوا طيبين ليصدقوا أن حكامهم يريدون مصلحة الوطن ويضعونها قبل مصلحتهم.
لكنهم بدوا حانقين هذه المرة، حتى أن ابتسامة رئيس النظام وزوجته بعد زيارته إلى حلب لم تشفِ غضبهم وحنقهم من الإهمال واللامبالاة التي عاملتهم بها مؤسساتهم الحكومية، ولم تغفر لهم سرقة الغذاء والدواء القادم من الدول التي أرسلت مساعدات إلى ضحايا الزلزال.
لن ينسى السوريون اليوم بمختلف انتماءاتهم السياسية أنه كان يوزع ابتسامات تنم عن استخفاف في وقت كان عليه أن يكون خجلاً مما فعل بتلك البلاد، أو على الأقل أن يكون حزيناً لمصاب أهلها، لكنه اكتفى بتوزيع الابتسامات للكاميرات من دون كلمات تعاطف أو إعلان حداد على أفراد شعب الدولة التي يحكمها.
لم يعد السوريون ينظرون بسذاجة إلى إنجازات وهمية حققها بانتصارات على إرهاب مُتخيّل، صار القاصي والداني يعلم أنه باع بلاده لقوى إقليمية ودولية، وأنه ليس سوى استمرار لنهج سلفه الذي وضع البلاد في قبضته باستخدام أساليب أمنية لمصالح شخصية وخارجية لا تمت للوطنية بصلة، وإذا كان الصمت مسيطراً حتى اليوم على السوريين في الداخل فليس ذلك إلا بسبب الخوف الموروث وعدم القدرة على نصرة القضايا في ظل شح اقتصادي وجوع أنهك أجسادهم.
هل نجونا حقاً؟ سؤال علينا أن نسأله ونكرره على الدوام، لأننا في اعتقادي أبعد ما يكون عن النجاة، ضحايا الزلزال أو ضحايا سفاحي البلاد أو ضحايا التهجير والاغتراب أو ضحايا اللعب السياسية المتنكرة في شكل دبلوماسية ضرورية.
لا أقصد هنا النجاة بالاستمرار بالحياة فحسب، فالنجاة بالنسبة إلى شعوب مثلنا تحتاج أن نستطيع النهوض مجدداً ويسجل لنا التاريخ قيامة كبيرة على ما كبّل قلوبنا وأفواهنا لعقود.
أثبت السوريون مجدداً أنهم شعب حيّ وأبناء حضارة لا تموت بينما بدأت تتضح صورة الجلاد ويتقزم حجمه شيئاً فشيئاً
وإذا كان ذلك ما زال يبدو حلماً بعيداً إلا أنه بدأ يصبح حقيقة في غضون أيام قليلة، بعد أن محت الحدود المصطنعة بين السوريين وتذكروا أنهم أبناء أرض واحدة ففتحوا بيوتهم للآخرين بصرف النظر عن هوياتهم السياسية، اقتطعوا من قوت يومهم ومن حاجاتهم الشخصية وجمعوا ما احتاجه الناس الأكثر تضرراً، والأهم أنهم جمعوا شتات قلوبهم ووحدوها في وجه أفكارهم القديمة، أثبت السوريون مجدداً أنهم شعب حيّ وأبناء حضارة لا تموت بينما بدأت تتضح صورة الجلاد ويتقزم حجمه شيئاً فشيئاً.
لقد خفتت أصوات طلب النجدة والأنين القادم من تحت الأنقاض ربما، لكنها نقلت روحها إلى قوافل المنتظرين على الطرف الآخر من الأرض بشغف، أولئك من قد يصنعون التاريخ محققين زلزالاً سورياً خالصاً يغير مصير الأرض السورية.