السوري غريق النهر..

2024.06.12 | 06:17 دمشق

56444444444444444444
+A
حجم الخط
-A

قبل عقد وأكثر، وعلى هامش موت يومي صنعته آلة القتل الأسدية بحق السوريين الثائرين، خلق تلكؤ المجتمع الدولي في إيجاد حلول جذرية لمأساتهم، أو القيام بإجراءات آنية تعالج معوقات، يواجهونها خلال رحلات هروبهم من حمام الدم، ثيمة مأساوية، صارت لاصقة بهم مع مرور الوقت، آلا وهي "الغرق"!

لا أذكر بدقة متى وقعت أولى حوادث الغرق، لكنني أتذكر أن مشهديتها الأولى كانت طافحة بما يُدمي القلب، ولا سيما مع رؤية المنقذين، وهم يخرجون جثمان طفلة غريقة، مضت وهي تلبس أفضل ما عندها من ثياب، ألبستها إياها أمها، وهي تعدها لاستقبال المكان الجديد، بعيداً عن المعاناة والقهر!

السوري المعروف لدى شرائح واسعة من البشر حول العالم، هو غريق البحر خلال رحلة الهروب! والعالم كله يعرف قصة الطفل إيلان الكردي بعد أن فتحت سماء التعاطف في أوروبا مع اللاجئين، وربما يمكن القول إن هذه الواقعة، وكذلك اكتشاف شاحنة براد في هنغاريا، احتوت جثامين عشرات اللاجئين، قد غيرا سياسات دول بكاملها في التعاطي مع هذا الملف.

كما أن الأعمال الفنية المؤثرة، والمساهمة في تحريض المسؤولين كي يعززوا إجراءات مساعدة الهاربين من الشرق الأوسط، رسخت ثقافة تنشيط النبض الإنساني، ليطغى على الصور النمطية، في سياق تعاطي الآخرين مع ضحايا الحروب من الشعوب المنكوبة.

كما أن واحدة من أهم ذرى هذا المنحى جاءت من عمل المنقذين، الذين كانوا يرابطون أمام جوالاتهم وخرائط الرحلات، كي يتابعوا رحلات اللاجئين، ليضمنوا سلامة ركابها، والاتصال بخفر السواحل من أجل إنقاذهم، في حال غرقت المراكب الخشبية المهترئة، أو القوارب المطاطية التي تنقلهم في عرض البحر.

كما أن مأثرة ترقى لمرتبة الأسطورة الحية، جاءت من حكاية السباحتين السوريتين يسرا وسارة مارديني بعد أن قامتا بإنقاذ أفراد رحلتهما من الغرق بين تركيا واليونان.

ما تزال رحلات اللجوء البحرية حاضرة حتى اليوم، وما انفكت مخاطرها تهدد المغامرين فيها، رغم أن التبدلات السياسية، وكذلك كثافة اللجوء، بما فيها عدم قدرة الدول المستضيفة على تحمل النفقات الناتجة عنها، قد جعلا الأمور صعبة على هؤلاء.

تمددُ الحروب، وغياب آفاق الحلول، وما يخلّفه في النفوس غياب الأمل، كل ذلك يجعل الناس أمام خيارين، إما المغامرة والخروج إلى حيث يمكن أن تأخذها الظروف، وإما البقاء وانتظار الفرج!

فبعد السوري الغريق، صار في قاموسنا؛ السوري الميت بعد الضياع في الغابات، وأيضاً السوري قتيل البرد في مجاهل الدروب الأوروبية!

الخيار الأول حمل للسوريين احتمالات موت جديدة، لا يمكن إلا أن يشار إليها، عند الحديث عن نجاح البعض في الوصول إلى ضفة أمان، تعني أن يتم القبول بصفة لاجئ في بلد ما. فبعد السوري الغريق، صار في قاموسنا؛ السوري الميت بعد الضياع في الغابات، وأيضاً السوري قتيل البرد في مجاهل الدروب الأوروبية!

لكن الخيار الثاني، الحافل بمسببات الموت، من قصف إجرامي لطيران الأسد وحليفه الروسي، إلى قصوفات المدافع والهاون، والموت اختناقاً بفعل غازات سامة وأسلحة كيميائية برع مجرمو النظام في صنعها واستخدامها، وأيضاً حروب مرتزقة الفصائل فيما بينهم.

لكن موتاً مختلفاً عن كل ما يصنعه البشر، صار يتكرر بكثافة في السنوات الأخيرة، يعيدنا إلى فكرة بدأنا بها هذه المقالة، إنها "الغرق"، مرة أخرى، لكن بدلاً من البحر، جاء النهر ليحتل المشهد، وليصبح السوري أيضاً غريق النهر!

حاولت أن أحصي عدد حوادث غرق مرت أمامي طوال الأشهر الماضية، بعد مأساة حافلة دركوش الغارقة في نهر العاصي، في محافظة إدلب (قتل فيها سبعة أشخاص غالبيتهم من الأطفال) لكنني تهتُ في العد! فخيل لي أن الجهة المكلفة بتوثيق أعداد من ماتوا اختناقاً تحت مياه الأنهار، توقفت عن عدّ الضحايا، مثلها كمثل الأمم المتحدة عندما توقفت بدورها ومنذ زمن طويل عن حفظ أرقام القتلى في سوريا، ومثلها أيضاً كمثل المؤسسات الأوروبية، التي لم تعد توثق عدد القتلى، من الغارقين في رحلات عبور المتوسط، بهدف اللجوء في القارة العجوز!

للشاعر والفيلسوف الروماني سيوران كتاب متداول كثيراً يحمل عنوان "الأشياء كلها بلون الغرق"، لا يحتاج السوريون لأن يقرؤوه، فعنوانه وحده يختصر تاريخ موتهم السهل.

الغرق في النهر هو خلاصة فكرة الموت، أو لها تكثيفها الخاص بالسوريين، إذ يحدثُ في بلاد جفت أنهارها ردحاً من الزمن، أو قلت مناسيب المياه فيها أن يبقى الموت يترصد الناس، فيفقدون حيواتهم، ولا يحول عائق بينهم وبين وقوع المصيبة!

لم تعد أنهار سوريا تصلح لأن تكون أسماء مبهجة في مواويل العتابا وأغنيات السهر، في الربيع والصيف، بل أمست عناوين لموت إضافي، يقتنص أحبة وملائكة صغار، كان ذنبهم الوحيد أن قدرهم ساقهم، لأن يولدوا في بلاد حكمها في كل أطوار تاريخها مجرمون، ومنهم أيضاً أولئك الذين ثاروا ضد القتلة والسفاكين، وصاروا مع مرور الوقت، والاستفادة من الظرف الحاصل أمراء حرب، يظهر إجرامهم الخاص عبر إهمالهم لمسؤوليتهم في الحفاظ على حيوات سوريين، قرروا -أو أجبروا- أن يبقوا في مناطق، يطلق عليها كذباً صفة "المحررة"!

للشاعر والفيلسوف الروماني سيوران كتاب متداول كثيراً يحمل عنوان "الأشياء كلها بلون الغرق"، لا يحتاج السوريون لأن يقرؤوه، فعنوانه وحده يختصر تاريخ موتهم السهل، الذي يترك بدوره غصات، تقتل البشر، لكن، وكالعادة، ينجو منها البلداء، والبهائم، والجمادات.