الناجون والضحايا في نهايات عوالمنا السورية

2024.09.06 | 05:43 دمشق

16555555555
+A
حجم الخط
-A

تُبنى النتاجات الفنية المؤطرة ضمن تسمية "ما بعد الكارثة"، أو "ما بعد نهاية العالم"، على فكرة محتملة جداً في عصرنا الراهن. إذ يتصور أصحابها أن العالم الذي نعرفه قد تدمر نتيجة لكارثة من نوع ما، كالحرب النووية، أو سقوط نيزك جبار على الكوكب، أو وقوع البشر فريسة لوباء قاتل. الأمر الذي يجعل الناجين يواجهون تحديات صعبة في صراعهم من أجل الاستمرار، فهم بقية البشر، وإذا ماتوا اختفى جنسهم.

وهكذا، سنجد في أغلب المسلسلات الدرامية، أو الأفلام السينمائية، وقبلها الأعمال الأدبية، أن الناجين يواجهون كل من يلتقونهم بريبة، إذ يخشون أن يكون الآخر مصاباً بالمرض الكارثي، أو أن يكون متآمراً من أجل السيطرة على ما بقي من الطعام، أو الاستئثار بالموارد القليلة. وبشكل عام، تصبح الصراعات هنا وجودية، أي تجري بين حدي البقاء أو الفناء، الحياة أو الموت. دراسة السلوك البشري إزاء الكوارث العظمى أمر مهم في الحياة الواقعية. ومن الجهة العلمية، لا يمكن افتراض ما هو ليس موجوداً، إذ إن العلم يفرض ضوابطه على الباحثين، لكنه لا يسيطر على عقول المبدعين الذين يخوضون في بناء قصص مثيرة عن نهاية العالم. إنه يمنحهم المفاتيح، لكنهم يخرجون عن احتمالاته المتوقعة. ولعل قياس الفروقات بين النتاجات الإبداعية يتأتى من قدرة صُناع الفن على اللعب بين هذين الحدين، أي العلم والخيال، لصالح إنتاج ما هو مثير وغريب. غير أن ثمة جهات أخرى تعيش في زمننا الحالي، بالتجاور معنا، لديها تصوراتها عن أنها هي الفئة الناجية من خراب العالم! وهي لا تبحث عن مقومات الصمود، لكونها قد سلمت من الخراب الافتراضي، بل إنها تعتقد، وبشكل مسبق، أن الآخرين المختلفين هم معتلون وهم متآمرون، ولهذا يتوجب عليها أن تهاجمهم، وأن تقضي عليهم في حال لم تتمكن من ضمهم إلى حلقة المحظيين، بالتمتع بأفكارها ومعتقداتها!

لكل إنسان عالمه الخاص الذي يرى أنه بذاته كل الكون، وبالتالي فإنه من السهل عليه الاعتقاد بأنه من الناجين دائماً.

هنا يمكن نقد سلوكيات هذه الفئة، لكن لا يمكن افتراض أن النقد يكفي بذاته لأن يصلح حالها، إذ ثمة نافذة صغيرة فوق كل حدث، يخرج منها أولئك الذين يتحدثون بفرح عن عدم تورطهم فيه! ويذهبون أكثر صوب تجريم الآخرين، وجعلهم أسباباً لفناء الحياة، بالإضافة إلى الشماتة بالضحايا! العالم الافتراضي في الروايات والأفلام يمكن أن يكون أي بيئة حاضرة في واقعنا الحالي، إذ لا يحتاج المرء جهداً ذهنياً كي يدرك أن حدثاً يجري في بناء ما يمكن أن يحاكي حدثاً هائلاً يحيق بالكوكب. أي أن لكل إنسان عالمه الخاص الذي يرى أنه بذاته كل الكون، وبالتالي فإنه من السهل عليه الاعتقاد بأنه من الناجين دائماً، إذا كان ثمة من يقوم بأفعال لا ترضيه في الفضاء ذاته. حدث قبل أيام أن أثار تحقيق نشره موقع الجزيرة حول مدرسة للصحافة في باريس ضجة كبيرة بين أهل المهنة من السوريين، إذ اُتهمت المدرسة بالاحتيال على طلابها. وتوزعت مسارات القصة بين إثبات واقعة النصب وبين نفيها. ويمكن للمسألة أن تصل إلى القضاء طالما أن الأخذ والرد يتناول معطياتها. لكن، وكما في عالم ما بعد الكارثة، وفي عالم ما بعد نهاية العالم، تفجر المشهد عن فئة من متابعي القضية، ذهبوا نحو افتراض أنهم وحدهم الفئة الناجية من الكارثة، وصاروا يعلّقون بالسوء على أولئك الذين تورطوا في التسجيل ودفعوا النقود في سبيل تحسين وضعهم المهني والعلمي.

شبكات التواصل الاجتماعي، تذهب إلى أن الضحايا لا يتم التعاطف معهم، أو مواساتهم، أو تقديم المساعدة الممكنة لهم.

لا بل إن الريبة سادت حول هذا الشخص أو ذاك، أو تلك المؤسسة، في أن المشكوك به قد تورط وعمل مع المدرسة المتهمة في سبيل الانتفاع والتكسب على حساب الضحايا، الذين صاروا فئة موبوءة، ويجب ليس فقط الابتعاد عنها، بل تقريعها أيضاً! كل مشكلة تحدث في عالم السوريين تتخللها هذه السلوكية، وهذا شيء يعبر بين الجميع. الأمر الذي يؤكد أن ظاهرة الفئة الناجية ليست مجرد نزعة دينية، بل إن تمثلها في الدين هو نتاج لإرث بشري، قوامه الشعور بالتهديد، ومظهره الأساسي هو الخوف من أن يصبح الإنسان، أو الفئة البشرية، ضحية. الأمر الذي يجعل هؤلاء يذهبون إلى بناء الحدود بينهم وبين الآخرين، والاستغراق في تدعيم الجدران الفاصلة بين الجهتين! النتيجة الكارثية المؤكدة، بعد تحليل وقائع متشابهة تكررت في حيز السوريين المتاح، أي شبكات التواصل الاجتماعي، تذهب إلى أن الضحايا لا يتم التعاطف معهم، أو مواساتهم، أو تقديم المساعدة الممكنة لهم. بل يجري استكمال إبادتهم معنوياً، وكأنهم هم من تسببوا بخراب العالم! بينما يُفسح المشهد عمن نجا، بسبب إصابته بنقص المبادرة المكتسب، أو انتفاء الطموح، مع وجود ذوات متورمة، وشعور عارم بقوة الحربقة!