لا يمكن النظر إلى وضع العلاقات الدولية في الوقت الحالي، والأزمة المستفحلة فيه، دون إحالة وضعية الالتهاب المَرضي إلى بؤر متعددة تتسبب بها، وتقود الكوكب نحو منعطف مختلف. يسهل للكثير التنبؤ بأنه سيكون كارثياً وبشكل يفوق كل ما مرّ على الإنسان من قبل.
بعيداً عن صراعات بسط النفوذ الاقتصادي والسياسي بين دول كثيرة، ولاسيما تلك الملقبة بالعظمى، أي الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي، والصين، وفرنسا، وبريطانيا العظمى، يمكن راهناً رؤية عدة حرائق مشتعلة حول المعمورة: الصراع العسكري الروسي الأوكراني، وأزمات الشرق الأوسط: والاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة، وما ينجم عنه من حروب، وآخرها الحرب التي تقودها حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب ضد الفلسطينيين في غزة وفي الضفة الغربية.
كذلك، الصراع الإسرائيلي الإيراني وتداعياته، حيث تشتعل جبهة لبنان، وتتبعها جبهة أخرى في سوريا، تتسبب بها محاولة طهران مدّ نفوذها أبعد بكثير من الحدود الإيرانية. فتصل شظاياها إلى اليمن، عندما استولت جماعة الحوثي، وبدعم من الحرس الثوري الإيراني، على السلطة، في مواجهة حكومة شرعية مدعومة عربياً. كما لا يمكن إغفال وجود جماعات مسلحة تعيث في الداخل العراقي فساداً.
وعلى هامش هذه الأوضاع المتفجرة، هناك ثورة مستمرة في سوريا، التي صارت ساحة صراع بين قوى إقليمية وأخرى دولية، وكذلك حرب داخلية في السودان، وتوترات داخلية شتى هنا وهناك. بالإضافة إلى تصفيات مؤجلة، تبدأ من حرب محتملة بين تايوان والصين، وتمر على القرن الإفريقي، حيث نجد طموحات إثيوبية على حساب الصومال الذي يتعافى من حروبه. وهناك أيضاً معارضات إقليمية لمحاولة حكومة أديس أبابا تطوير البلاد من خلال مشروع سد النهضة، الذي يخلق واقعاً جديداً لا تقبله الدول المستفيدة من نهر النيل، أي مصر والسودان.
ينظر كثيرون بتوجس كبير إلى قرار شبه عابر اتخذه رئيس الولايات المتحدة المنتهية ولايته، جو بايدن، يسمح به لأوكرانيا أن تستهدف العمق الروسي بأسلحة أميركية.
يمكن لأي مكان من الأمكنة السابقة أن يصنع فتيلًا لتفجر حرب هائلة، لا يمكن ضبط مسارها أو ضمان محدوديتها.
وإذا كان وضع الحرب الروسية الأوكرانية أشد الأمثلة خطراً، نظراً لكونه يحوي تماسات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة من جهة، وروسيا في الجهة المقابلة، قد استمر مضبوطاً ليبقى على جانبي الحدود بين البلدين، فإن خطوة غير محسوبة بدقة، يقوم بها أحد الطرفين أو أحد المشاركين في دعمهما، يمكن أن تؤدي إلى تمدد الصراع صوب مساحات أوسع وأبعد من البلدين ذاتهما.
ضمن هذا المستوى من احتمالات انهيار الشكل الراهن للعلاقات الدولية، ينظر كثيرون بتوجس كبير إلى قرار شبه عابر اتخذه رئيس الولايات المتحدة المنتهية ولايته، جو بايدن، يسمح به لأوكرانيا أن تستهدف العمق الروسي بأسلحة أميركية. حيث ينظر الملتاعون منه إلى سوء تصرف بايدن على أنه يمنح الروس فرصة لتكرار الحديث عن الاقتراب من حرب نووية كاسحة!
هل بات العالم ينتظر الانفجار الكبير؟
بعد هذا كله، يحق السؤال: هل بات العالم ينتظر الانفجار الكبير الذي سيجبر الجميع على تلمس نظام دولي جديد وشكل مختلف للعلاقات الدولية؟
نظرياً، يمكن وضع ثلاث عقد رئيسة في مسار تطور هذه العلاقات، دون اللجوء إلى تحليل مجريات كل واحدة، فكل منها، ورغم ما قدمته من تحويل في الوقائع التي كانت تحدث على الأرض، وصلت في النهاية إلى حائط مسدود، مما أدى إلى نشوب كارثة كونية، اضطر البشر بعدها إلى تشكيل العقدة التالية.
معاهدة ويستفاليا الموقعة في العام 1648 بين الإمارات والإمبراطوريات الأوروبية، أتت إلى التاريخ السياسي بمفهوم الدولة القومية والنظم السياسية القائمة على مفهوم السيادة. لكن تحولات الفترة الاستعمارية والصراعات التي اكتنفتها أدت إلى وقوع الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بين دول المحور (ألمانيا وحلفائها) ودول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا وعدة دول حليفة)، والتي أدت إلى انهيار الإمبراطوريات العظمى وبداية ظهور نظام دولي أولي، قام على إنشاء عصبة الأمم.
عصر الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي قد انتهى مع تفكك الأخير، غير أن روح الحرب الباردة بين الطرفين لم تنته.
غير أن الحلول المؤقتة للإشكاليات الدولية الراسخة وانفجار الصراعات القومية والأيديولوجية في الآن نفسه، أوصل البشرية إلى عتبة حرب كونية أشد شراسة من سابقتها. وهكذا تفجرت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وشارك فيها دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان) ودول الحلفاء (فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وغيرها)، بحيوات عشرات الملايين من البشر. وأفضت إلى تأسيس نظام دولي حديث يقوم على وجود هيئة الأمم المتحدة، ووجود مجلس الأمن الذي تسيطر عليه الدول العظمى، ويفترض به ضبط إيقاع الصراعات بما لا يسمح بتمددها وتحولها إلى حروب واسعة جديدة!
صحيح أن عصر الثنائية القطبية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي قد انتهى مع تفكك الأخير، غير أن روح الحرب الباردة بين الطرفين لم تنته، بل بقيت كامنة تنتظر لحظاتها المناسبة كي تتطور إلى مستويات أعلى سخونة.
المفترق الذي يربض العالم فيه الآن هو حدٌ بين الانهيار الشامل للعلاقات الدولية واستمرار حالة الاستنزاف القهري التي تعيشها شعوب بأكملها. جماعات مضطهدة باتت فاقدة للآمال، طالما أن البشرية غدت تحكم بأساليب وحشية، يمكن النظر نحوها بتقزّز، طالما أنها تنكص نحو أزمنة ما قبل معاهدة ويستفاليا، حيث يمكن لأي صاحب قوة أن يُغير على جيرانه، فيسلبهم أرضهم وحيواتهم، بينما يراقبه آخرون ويستعدون لتنفيذ دورهم في الجريمة ونيل حصتهم من المكاسب.