بعيداً عن النقاش المحتدم بين السوريين والفلسطينيين حول الموقف من حركة حماس وسلوكها السياسي والميداني، ولا سيما قضايا التحالفات، ربما يؤدي التدقيق في آليات هذا النقاش وما يرشح عنه من آراء متطرفة يمينًا أو يسارًا، إلى نظرة تشاؤمية حيال إمكانية الاتفاق على قواسم مشتركة تجمع المتناظرين فيما بينهم.
في الوقت نفسه، فإن طرق تعبير البعض عن رأيه في الموضوع تقود المتابع إلى ما هو أسوأ حين يسهل استدعاء الاتهامات بالخيانة والعمالة، والنبذ بأقذع الصفات!
هل نحن فعلًا في منحدر حاد، لا يمكن إيقاف السقوط منه، أم أنه يمكننا اللجوء إلى ما يشبه مدونة سلوك، أو ميثاق شرف، يجعلنا نتروى قليلًا قبل أن نسدد للخصوم صفعات الشتائم والاتهامات القاضية؟ وهل يمكن لمثل هذه الفكرة أن تكون مجدية؟
لأسباب متعددة، بعضها معلوم وبعضها الآخر مجهول، تفشت في وقت ما موضة إطلاق مواثيق الشرف بين السوريين! وفي لحظة محددة (ربما في منتصف العقد السابق)، حدث أن بين ظهور أي ميثاق وميثاق، كان ثمة ميثاق آخر يصدر، موقعًا من قبل بعض الشخصيات، أو عدة مؤسسات، أو ثلة من الهيئات.
وبعيدًا عن مشروع ميثاق الشرف الوطني الإخواني الذي أطلقته الجماعة في العام 2001 في محاولة لكسب ود السوريين في زمن ربيع دمشق، يمكن التوقف عند أولى المواثيق التي ظهرت بعد عام 2011، حيث حملت عنوانًا عريضًا هو "ميثاق شرف الثورة". غير أن اشتهار الفكرة في عالم الصحافة أعاد ضبط المسألة وأرجعها إلى جانبها المهني، ما أدى في المحصلة إلى ظهور مواثيق مختصة، كميثاق شرف الإذاعات المستقلة، وكذلك ميثاق شرف الإعلام البديل.
تعود فكرة إصدار ميثاق شرف كما أسلفنا إلى حقل العمل الصحفي، حيث بُنيت على ضرورة أن تقوم الوسائل الإعلامية بتنظيم عملها ذاتيًا، أي أن يضع العاملون فيها لأنفسهم قواعد أخلاقية ملزمة.
لكن البعض رأى أن القوى السياسية تحتاج إلى ميثاق خاص بها، فدعا إلى شيء كهذا، رغم أن ظهور قانون للأحزاب، في بيئة دستورية، قد يكفي السياسيين شر الاجتهاد! وفي جانب آخر، وبعد سلسلة من الحوادث اللا أخلاقية كالسرقة الفكرية ولطش السيناريوهات، توجه عدد من كتاب السيناريو التلفزيوني إلى إصدار وثيقة مشابهة خاصة بهم، دعت إلى أن يحترم أصحاب المهنة بعضهم، فلا يمدون أيديهم على نصوص زملائهم دون اتفاق. وطبعًا لا يجب أن يستولي كاتب على جهد آخر، فينسب لنفسه أفكارًا أو حبكات.
اللافت في مثل هذا المثال، أن هذا الاجتهاد من كَتَبة الدراما جاء في ظل تراجع كمية الإنتاج، وكثرة الرديء، وقلة التسويق. وقبل هذا، ورغم أن الموقعين عليه من العابرين للضفتين المؤيدة والمعارضة في نفس الوقت، إلا أنه صدر في ظل تحكم رسمي بمفاصل هذه الصناعة، من قبل وزارة الإعلام، ومن غرفة صناعة السينما والتلفزيون، إضافة إلى وجود نقابة للفنانين. ومع معرفة يقينية من قبل الموقعين أن أهم الجهات المنتجة الفاعلة هي تلك القادمة من ظهراني النظام، وهي بحكم الاعتياد وبسبب تضخم إحساس أصحابها بامتلاك السوريين وأفكارهم، لا تتورع عن سرقة أي نص أو فكرة تحلو لها!
تعود فكرة إصدار ميثاق شرف كما أسلفنا إلى حقل العمل الصحفي، حيث بُنيت على ضرورة أن تقوم الوسائل الإعلامية بتنظيم عملها ذاتيًا، أي أن يضع العاملون فيها لأنفسهم قواعد أخلاقية ملزمة، يتم من خلالها ضبط سلوك المهنيين خلال قيامهم بعملهم. ولهذا سميت مواثيق الشرف بمدونات السلوك أيضًا.
لكن رطانة العناوين المغرية تعمي أحيانًا عن الضرورات والمحددات، فمثل هذه الوثائق لا يجب أن تتضمن وصايا أخلاقية عامة، كالنهي عن الكذب، لأن الصحفي لا يجب أن يكتب خبرًا كاذبًا. عمله المهني يقوم أصلًا على البحث عن الحقيقة وتقديمها للجمهور. فإذا فعل ذلك، فإن الواجب يقتضي محاسبته قانونيًا. هذا يعني أن هناك طرفين في المعادلة: مؤسسة صحفية، وقانون خاص بالمهنة، إضافة إلى مؤسسة نقابية تتبنى الميثاق المحلي، ليكون حارسًا لأخلاق المهنة، وضابطًا لسلوكيات لا يتم رصدها لا مهنيًا ولا قانونيًا.
صناع مدونات السلوك بشكل عام، وليس في مهنة الصحافة فقط، لم ينتبهوا إلى ضرورة الفصل بين الأصول المهنية، والقوانين الناظمة، وبين المسار الأخلاقي الذي يتضمنه ميثاق الشرف.
ضمن هذا المسار، يمكن التوقف عند الضرورات التي جعلت من مواثيق الشرف موضة رائجة في حقل الإعلام. أولها يأتي من أن العمل المهني المحلي الذي بات يندمج مع المنظمات الدولية صار يعمل على تطبيق قواعدها. فإذا أراد اتحاد صحفيي مدينة ما أن ينتسب لإطار وطني أكبر أو إقليمي، وجد أن عليه الالتزام بوثيقة أخلاقية ملزمة لصحفييه. الأمر الذي يربط بين الاستفادة من مقدرات أصحاب التجربة وبين التنظيم الداخلي الطوعي. لكن ماذا يفعل هذا المهني إن كانت البيئة التي يعمل فيها، لا تريد أن تنظم حالها طواعية، وهي تفعل هذا مرغمة بغية الحصول على الميزات فقط لا غير!
صناع مدونات السلوك بشكل عام، وليس في مهنة الصحافة فقط، لم ينتبهوا إلى ضرورة الفصل بين الأصول المهنية، والقوانين الناظمة، وبين المسار الأخلاقي الذي يتضمنه ميثاق الشرف. فجاءت النصوص المنجزة خليطًا من كل ما سبق، إلى درجة أن القارئ يضيع فعليًا، فلا يدري هل كُتبت سطورها من أجل تعليم المهنة، أم من أجل تعزيز الجوانب الأخلاقية فيها. ولعله من الصادم أن ما يرد في المدونات السلوكية، صار يتعلق بأخلاق مجتمعية، يُفترض أنها أرضية مشتركة بين الجميع؟!
ليس الغرض هنا جعل القارئ يمل من الحديث عن التفاصيل المهنية التي لا تعنيه ربما، بل إن الهدف يأتي من ضرورة اطلاعه على ثقل المسألة وترابطها مع قضايا متعددة، تمر بالقانون وبالأخلاق، وبالحرفية، والاتفاق بين أعضاء الجماعة/الجماعات، على وجوب الالتزام بالمدونة السلوكية الخاصة بهم!
غير أن توسيع الفكرة لتصبح عمومية وواسعة لتشمل سلوك الجمهور في شبكات التواصل الاجتماعي، بوصفها حالة اشتباك من الإعلام الخبري والمنتديات التفاعلية وغيرها، وعبر ما سبق كله، يجعلنا، وضمن حمولة التشاؤم، نرى أن من الصعوبة دفع الجمهور إلى عتبة سلوكية ملزمة. طالما أنه قد فقد الثقة بالسياسيين وبالعسكريين وبالصحفيين وبالشخصيات المؤثرة، وبات على اعتقاد أن عليه أن يؤدي عمل كل هؤلاء بيده هو. وأقل ما يمكنه فعله، إنما هو الانضمام إلى الجماعة الأكثر حضورًا، أي تلك التي تشكك بكل شيء بعد أن فقدت كل شيء.