icon
التغطية الحية

الدولة التواكلية أو دولة اللاإرادات.. عوامل نشوئها وأخطارها

2022.07.15 | 09:20 دمشق

مجون
+A
حجم الخط
-A

أغلي غضباً حين أعرف أنَّ الدواء الذي أستعمله مُستورَد في معظمه، ولمبة الكهرباء التي تنير غرفتي مستورَدة، جهاز الكمبيوتر، الهاتف الجوَّال، حتى الفنجان المزخرَف الذي أحتسي فيه القهوة مع زوجتي. كلُّ هذا جاءني من قناة اسمها: الاستيراد، ولم يُصنَع في بلادي، فهل أنا شخصياً صناعة محلية من معمل أبي وأمي أم تمَّ استيرادي أنا الآخر؟ ومع الاستيراد واعتمادِ البلد على سواه ماذا يحدث يا تُرَى؟ أتذكَّر أبياتاً للشاعر محمد البردوني يقول فيها:

فظيعٌ جهلٌ ما يجري    وأفظعُ منه أن تدري

غزاةٌ لا أشاهدهم    وسيفُ الغزو في صدري

فقد يأتون تبغاً في    سجائرَ لونُها يغري

وفي أقراصِ منع الحمل    في أنبوبةِ الحبرِ

نشوء الدولة التواكليَّة أو دولة اللاإرادات

لم أجد أفضلَ من هذه التسمية أطلقها على نموذج الدولة السائد أو شبه السائد في المنطقة العربية خلالَ مئةِ العام المنصرمة، أي بعد انتهاء الفترة العثمانية. فمعظمُ لوازم الدولة من مواد البناء، والصحة، والأجهزة الكهربائية، والأسلحة التي تدافع بها عن نفسها، وقسمٌ كبير من الأغذية كلُّ هذا يأتي من الخارج، فشأنها شأنُ الشجرة التي تترك الساقيةَ القريبة لتشرب من ساقية بعيدة يملكها رجل غريب! وقد صعقني أنني اكتشفتُ ذاتَ مرة أنَّ القمح الذي يَصنع منه العرب أرغفةَ الخبز لهم ولأطفالهم نصفُ كمياته مستوردة من أميركا! صرختُ يومئذ: معقول؟! ألسنا بلاداً زراعية، والبلاد الزراعية يجب أن تنتج طعامَها على الأقل؟!

أظن أن الدولة التواكلية نشأت جذورها القديمة في العصر العباسي الأول حيث مالت النفوس إلى مناهل الرغد مع اتساع رقعة الدولة، وقوتها الهائلة، ووفرةِ مواردها، فاستحقت صفة: إمبراطورية أو إمبراطورية كبرى في عصر هارون الرشيد، وعدد من أولاده. إلى جانب الرَّغَد نما طحلب الكسل في النفوس، وكأنَّ العرب قالوا لأنفسهم: ها قد أسسنا دولةً عظمى، وآنَ لنا أن نتركَ السيفَ والعمل لنرفل في الديباج والنعيم، وبالفعل انصرف الناس خاصة طبقةُ الأغنياء والأمراء إلى اقتناص السعادة مع الجواري وكؤوس الشراب، وتركوا المهنَ للعبيد، والقتالَ لبقية القوميات والأعراق. 

بل إننا ربما استطعنا أن نجد لهذه المسألة جذوراً أبعد، هناك في العصر الجاهلي عندما كان العرب مجتمعاً شبهَ عسكريّ يعتمد في تأمين أقواته على الغزو لا على العمل والإنتاج. أياً كانت الجذور، فالحالةُ التواكلية بدأتْ، وأخذ نباتُها المخيف ينمو داخلَ الصدور. أمَّا الإرادات فيوماً بعد يوم نامت في كهف السكون والغفلة حتى سقط تاجُ العز بوصول المغول إلى بغداد عام 1258م، ووجد العرب بعد ذلك أنفسَهم لعبةً في أيدي الغزاة إلى أن انتهت الحقبة العثمانية

باتت أمم الأرض جميعها تقريباً تشعر بأن العرب أمة زائدة عن الحاجة، قد يكون لبعض الميكروبات نفع أما هم فلا جدوى منهم! وهنا وجد أعداؤهم فرصةً ذهبية لطعنهم.

مع فترة الاستعمار الأوروبي، ورغم الحالة المزرية للاحتلال عموماً احتكَّ العرب بفكر جديد مستنير، ووسائلَ حضارية مختلفة، وكان من الممكن جداً مع خروج المستعمر أن تنهار مملكةُ التواكل في نفوسهم، وتصحو إراداتُهم لبناء دول عصرية متماسكة تعتمد على نفسها كما جرى في دول أخرى كانت مُستعمَرة كالصين، والهند وسواهما، غيرَ أنَّ البلاد العربية سقطت جميعاً في قبضة نوعين من الاستبداد وضعاها من جديد على خط الضعف والتواكل، وهما: الاستبداد العسكري في بعض الدول، واستبداد السلطة المتوارثة المستند إلى شرعنة دينية أو مساندة خارجيَّة في دول أخرى! والحاكم سواءٌ كان من فئة العسكر أو الفئة الثانية الوارثة للكرسي لم يعد يهمه -غالباً- حال بلده، وإنما همُّه الأكبر حراسة الأرجل الأربع لكرسيه حتى إنه يخاف عليه من ضوء الشمس، وطنينِ الذباب. بل إنَّ بعض الحكام بات يتقرَّب من الأجانب بزيادة الاعتماد عليهم، وفتحِ الأسواق على مصاريعها لمنتجاتهم. ثم تضاعفَ التواكلُ وتراخي الإرادات مع ظهور الثروات الباطنية بأنواعها من بترول وذهب وفوسفات وغيرِ ذلك، فظهرت نغمة التغني بالعطاء الإلهي بصورة سلبية مع الأسف، فقد قال أصحابها سراً، وأحياناً جهراً بأنَّ الله خصَّ هذه الأمة بنعمة الثروات لترتاح من الكد المضني الذي تنهض به أمم كثيرة من أجل لقمة العيش، وهكذا -مع استثناءاتٍ قليلة- تحوَّلت ثرواتُ الأمة إلى وبال، وما بقيَ من عزائمها خبا، ومضى نحو الانطفاء.

أخطار دولة التواكل واللاإرادات

  1. الانحدار الحضاري: وهو السمةُ الأبرز لأمتنا مع شديد الأسف والحسرة، فهي غداً في موقع أسوأ من موقعها في هذا اليوم! حتى بات العرب كأنهم جنسٌ غريب عن سكان الكوكب الذين يساهمون بشتى بلدانهم في رفد نهر التطور فيه بسواقي إبداعاتهم وعطاياهم.
  2. الضعف: بات الكيان العربي كلُّه -كما لم يعد خافياً- شيئاً هزيلاً، فأثرهم السياسي في خانة الصفر، وآثارُهم في المجالات الأخرى: العسكرية، والتقنية، والفضائية، وسوى ذلك تعانق الصفر أيضاً أو هي قريبة منه! وقد قال الشاعر ساخراً من هذه الحال:

صِفراً غدونا فوق صِفرٍ فوق صِفرِ

وحياتُنا طبلٌ رخيصٌ قربَ زمرِ

جسد الأمة -ويا للبؤس- بات كأنه من فصيلة الرخويات أو كورق السِّلق المغلي على النار، ولذلك فبلادنا دوماً تحتل المركز الأول في مفكرة الطامعين، وعلى ثرواتها يسيل لعابهم، ونحوها يفتحون أذرعَ غرامهم الكاذب.

  1. مصير الأمة بيد غيرها: وهذا محصلةٌ طبيعية لوهن الإرادات والتواكل، فالأمم الأخرى تستطيع أن تمنع عنها السلاح فلا تقاتل، وتقطع عنها النت، فتتوقف لديها وسائل التواصل، وتستطيع أيضاً أن تقطع عنها الغذاء، فتهلك جوعاً، وفي مقدورها أن توقف عنها الثلاجات التي تحفظ الجثث، فيتفسخ الموتى، وتنتشر الأوبئة.
  2. قرف من وجودها: باتت أمم الأرض جميعها تقريباً تشعر بأن العرب أمة زائدة عن الحاجة، قد يكون لبعض الميكروبات نفع أما هم فلا جدوى منهم! وهنا وجد أعداؤهم فرصةً ذهبية لطعنهم، وتلطيخهم، والاستهانة حتى بتاريخهم المشرق، وباتوا كأنهم ضيف ثقيل على الدنيا، فتارةً يتهمونه بالإرهاب، وتارةً بالغباء، وتارةً بزيادة الوزن فوق الأرض مما قد يتسبب بالزلازل، ويفسد دورة الفصول.

تبديل المسار

لعل نقطةَ البدايةِ تكون في تحريك قاطرةِ الفكر الخاملة، وقد تجمَّعَ على عجلاتها الكثير من الصدأ، وقد يكون الفكر موجوداً، لكنه ممنوع من الحركة كطائر سجين، فهناك عدد من المفكرين العرب في هذه الدولة أو تلك أفنَوْا أعمارَهم في كتابة سلاسلَ عن كيفية النهوض والتجاوز لإنقاذ زورقنا المتجه نحو الضياع، وعن هؤلاء ينبغي البحث للاستفادة مما لديهم، كذلك من الضروري جداً قراءةُ تجارب النهوض في الأمم التي كانت في الخلف كأمتنا، ثم وثبتْ فإذا بها تصنع المعجزات أو ما فوق المعجزات كماليزيا(1) والهند والصين ونمور آسيا! وعند التغيير يجب البحث لا عن تغيير وجوه أصحاب الكراسي، وإنما عن تغيير نظرية الحكم القائم عندنا على الفرد تغييراً جذرياً، والاستفادةُ من التجربة الديمقراطية في العالم والاعتماد على التعدد والكفاءة، فالإدارةُ والسياسة وقيادةُ البلدان كلُّ ذلك غدا عِلماً دقيقاً، ولم يعد مستنداً إلى الأمزجة والأهواء، ولا بد من استبعاد النزعات العفنة والضيقة كالطائفية والمذهبية عن القاطرة المتوجهة نحو النهوض والتغيير الشامل، وينبغي الحرص كلَّ الحرص على سلمية التغيير، وتجنُّبِ الانجراف نحو العسكرة والعنف، والاستعانة بالطرف الخارجي من أجل بلوغ الهدف، ومَرمانا الأخير أو مرادُنا الأكبر هو دولةٌ تتيح فرصاً متماثلة للجميع، وكلُّ القامات فيها متساوية أمام النُّظُم، فالتاجُ الحقيقي هو القانون، وهو يعلو رؤوسَ الجميع، ويحكمهم بما فيهم الحاكمُ نفسُه، يقول شاعر:

نورُ العدالةِ يا بلادي   أغرودةٌ بفم الشَّوادي

كفٌّ تُدفِّئُ جرحَنا   ماءٌ سيسقي كلَّ صادِ

ومن أهمّ ما يجب السعيُ للاستفادة منه الطاقاتُ المبدعة، وهي كثيرة عندنا، لكنها مطمورة تحت رمال الإهمال بعد أن عَمِلَت أيدٍ مشبوهة وسياساتٌ متخلفة على تهميشها وإقصائها، بل جرى أحياناً تصفيتُها أو طردُها نحو الخارج.

وأحبُّ أن أسأل أخيراً: إذا كنا نقيم عشرات البرامج للبحث عن مطرب فلماذا لا نبدأ بإقامة برنامج واحد للبحث عن مبدع في مجال الرياضيات، والفيزياء، والتجارة وحتى في مجال العمل السياسي.

 


(1)  هناك لقاء أجرته فضائية الجزيرة على عدة حلقات مع رئيس الوزراء الماليزي السابق: مهاتير محمد حول تجربة النهوض عندهم، ويمكن الاستفادة منه.