"أحضرت لك صندوقاً من أفضل أنواع النبيذ الموجود في الجولان"، عبارة شكر قدّمها في آذار 2019 بنيامين نتنياهو رفقة صندوق نبيذٍ "جولاني" لصديقه (الكريم) الرئيس الأميركي حينذاك دونالد ترامب، بعد أن أهدى الأخير للشعب الإسرائيلي قلماً خّطّ به توقيعه الثمين على قرار "ضمّ الجولان لإسرائيل"؛ التوقيع الذي -ربما- لا يفوقه قيمةً سوى ثمن شراء الجولان السوري الذي سبقه بـ 52 سنة.
مجازاً، فإن نتنياهو أهدى لترامب وفريقه نبيذاً معتّقاً منذ 6 حزيران 1967، وليس أعظم من هذه المناسبة لإخراجه من سراديب التخزين والتخمير، والانتشاء بارتشافه علناً أمام مرآنا ومسمعنا -نحن السوريين- المدركين أصلاً بأن التوقيع ما هو إلا إجراء شكلي لن يغيّر من حقيقة اشتراك الأسد الأب مع الإسرائيليين بخطة اغتصاب الجولان.
السؤال الذي راح يُطرح بالتزامن مع ذلك التوقيع، والمكوّن من شقّين اثنين، هو: لماذا انتظر الأميركان طيلة تلك العقود الخمسة لإعلان موافقتهم على ضم الجولان إلى إسرائيل؟ وهل لتوقيع ترامب على الضمّ كل تلك الأهمية التي دفعت غالبية أطراف المجتمع الدولي للشجب والرفض؟
بعد مضي أكثر من 54 على إعدام كوهين، وبالتحديد في تموز 2018، يعيد بشار الأسد إلى زوجة كوهين (رفيق الوالد) ساعة اليد الخاصة بزوجها "المغدور" من خلال صفقة ما تزال تفاصيلها مجهولة المعالم
الإجابة على الشق الأول، تستوجب العودة بالتاريخ إلى الفترة الزمنية الواقعة بين انقلاب البعث واحتكاره السلطة في سوريا (آذار 1963) وبين انقلاب حافظ الأسد على رفاقه ضمن ما أطلق عليه "الحركة التصحيحية" (تشرين الثاني 1970) التي مهدت لتفرّد آل الأسد بحكم سوريا حتى الساعة.
هيمن على تفاصيل تلك السنوات الست بروز أحداث ثلاثة كان لها الأثر الأخطر في تغيّر معالم الدولة السورية، سياسياً وعسكرياً وفكرياً وجغرافياً. الحدث الأول –حجر الأساس للحدثين التاليين- تمثّل بقضية "كوهين" الجاسوس الإسرائيلي الذي تمكّن من التوغل داخل المفاصل الحساسة للمؤسسة السياسية داخل سوريا بما فيها القصر الجمهوري؛ والحدث الثاني تجسّد بتنصيب حافظ الأسد وزيرًا للدفاع ليصبح المتحكّم الأوحد بالمؤسسة العسكرية، أما الحدث الثالث، ونقصد به سلخ الجولان، فيعتبر نتيجة حتمية للحدثين الأولين ومُمهّداً رئيساً لتمكين الأسد وسلالته في السلطة منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم كما أسلفنا.
مَن هو (إيلي كوهين)، أو ما كان يُعرف بـ "كامل أمين ثابت" في الأوساط السياسية السورية حينذاك، وما دوره في حدث تنصيب حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وعلاقته بحادثة (بيع) الجولان؟
***
بعد انقلاب البعث في 8 آذار 1963 تم تنصيب الضابط أمين الحافظ رئيساً للبلاد بعد أن كان ملحقاً عسكرياً في السفارة السورية بالأرجنتين. وهناك، تعرّف الحافظ عام 1961 إلى رجل الأعمال "كامل ثابت" الذي ادّعى بأنه من عائلة سورية، ثم قويت علاقتهما إلى درجة جعلت الأخير يسافر إلى سوريا في عام 1962.
ومن خلال علاقته بالحافظ، تمكن كوهين/ ثابت من إنشاء علاقات وطيدة مع شخصيات البعث داخل الصفوف الأولى، العسكرية منها خاصة.
شيئاً فشيئاً، راح كوهين يرافق قادة التشكيلات العسكرية لتفقد القوات على الجبهات مع إسرائيل، في هذا الوقت طلبت الموساد منه أن يتعمق بعلاقاته مع كبار الضباط في الجيش وأن يرشَح لهم أسماء موثوقة من بينهم، فوقع اختياره على الضابط حافظ الأسد الذي وطّد علاقته معه خاصة بعد تسلمه قيادة القوى الجوية.
وبمعزل عن مدى صحة الكتابات والمذكرات التي تناولت شهادات متفاوتة لكوهين، والتي يصف فيها الأسد بالوضاعة والدناءة وكراهية الضباط الكبار له؛ لا نستطيع صرف أنظارنا عن المكانة الاستثنائية التي احتلها الأسد خلال حياة كوهين وقبل اكتشافه والحكم عليه بالإعدام في أيار 1965.
خلال السنوات الأربع التي قضاها كوهين في سوريا، والتي رشحته لتسلّم مناصب حساسة داخل نظام البعث، من بينها نائب وزير الدفاع؛ استطاع ذلك الجاسوس إرسال العديد من المعلومات الاستخباراتية المهمة إلى الموساد الإسرائيلي، ولاحقاً كان لها الدور الرئيس في انتصارات إسرائيل خلال حرب الأيام الستة في حزيران 1967 والتي تم على إثرها احتلال الجولان.
ما يدعو إلى الدهشة هو إعلان تل أبيب بأن المعلومات التي قدّمها كوهين، كانت مفيدة جداً في حرب الأيام الستة، أي أن القيادة العسكرية السورية آنذاك، متمثلة بوزير الدفاع حافظ الأسد، لم تغيّر في خططها الدفاعية، ولا في الأماكن الرئيسية لتمركز قواتها وعتادها!
بالعودة إلى تلك العلاقة التي جمعت حافظ الأسد بكوهين، تكشف الوثائق البريطانية عن زيارتين منفصلتين أجراهما الأسد إلى بريطانيا حين كان ضابطاً برتبة لواء وقائداً للقوى الجوية.
الزيارة الأولى إلى بريطانيا كانت ضمن وفد عسكري تعود إلى سنة 1964، وأثناء الزيارة تمكن من التسلل بعيداً عن الوفد ليلتقي مسؤول المخابرات البريطانية وحده.
أما الزيارة الثانية للأسد فكانت عام 1965 بحجة العلاج، وبقي في لندن ما يقرب من 3 أشهر، ولعل أهم ما أنجزه هناك كان لقاءه الشهير بوزير المستعمرات البريطاني اللورد (طومسون)، بحسب وثائق الوزارة نفسها، وما خلّفته تلك الزيارة حين قيل بأن الأسد التقى سراً بأحد ضباط الارتباط الإسرائيليين.
زيارة لندن تلك اعتبرها رفاق الأسد حالة عمالة مؤكدة، وأنه –الأسد- ارتبط بالمخابرات البريطانية منذ ذلك التاريخ على الأقل، ثم فسروا أحداث حرب حزيران وفقاً لذلك، معتبرين أن الأسد خائن، وأنه سلّم الجولان عن سابق إصرار وتصميم للإسرائيليين، ثم بقية الأحداث التي شهدتها سوريا.
بهذا الصدد يذكر الكاتب البعثي المعارض والسياسي الراحل "عقاب يحيى" في إحدى مقالاته في موقع تلفزيون سوريا بأن اللواء "أحمد سويداني" رئيس الأركان في حرب حزيران قال له: "إن حافظ الأسد خائن".
وورد في وصية رئيس الاستخبارات السورية آنذاك "عبد الكريم الجندي" قبيل انتحاره أو (نحره): "إن رفيقنا حافظ عميل ومرتبط ومشبوه سيدمر نفسه ويدمر الحزب والبلد".
ويجتمع غالبية معاصري الأسد من رفاقه الذين سجنهم واستبعدهم وطاردهم، ومن بينهم الرئيس أمين الحافظ نفسه خلال لقائه على الجزيرة في برنامج "شاهد على العصر" على أن تركيبة حافظ الأسد ومساره ومواقفه تتلخص في نهمه وعشقه للسلطة والتمسك بها بأي ثمن، وقد اشتهر بالمقايضة بكل القضايا مقابل البقاء في الحكم، حتى لو كانت تلك القضايا جوهرية وتمسّ أمن الوطن واستقلاله وسيادته، أو التنازل عن جزء منه، أو عقد الصفقات المشبوهة التي تديم حكمه مقابل ما يقدمه للآخرين.
ولعل من أكثر المواقف دلالة على متانة العلاقة بين كوهين والأسد وخصوصيتها تكمن في مصير الرائد "محمد وداد بشير" الذي داهم بيت كوهين وقبض عليه متلبساً وهو يرسل الرسائل المشفّرة بجهاز "مورس" لإسرائيل، والذي كُلّف من قبل أمين الحافظ للإشراف على قضية كوهين إلى حين تنفيذ الحكم. فقد لوحق الرائد بشير من قبل الأسد ما اضطره للهروب عام 1968 إلى العراق لينتقل بعدها إلى لبنان وأقام فيه إلى العام 1976 حيث اختطفته المخابرات السورية من شقته في بيروت لتكافئه على خدماته بسجنه لمدة 14 سنة في ذات الزنزانة التي سُجن فيها الجاسوس كوهين في سجن المزة العسكري.
بعد مضي أكثر من 54 على إعدام كوهين، وبالتحديد في تموز 2018، يعيد بشار الأسد إلى زوجة كوهين (رفيق الوالد) ساعة اليد الخاصة بزوجها "المغدور" من خلال صفقة ما تزال تفاصيلها مجهولة المعالم كعلاقة حافظ مع كوهين؛ ولو كان الوريث على علم بمكان دفن جثته لَما توانى لحظة عن تسليمها لحلفاء العائلة في إسرائيل.
يبدو أن بيع الجولان في حزيران 1967 كان ثمناً لضمّ الأب إلى إسرائيل، وما تمّ التوقيع عليه في آذار 2019 كان للمصادقة على ضَمّ الابن. يؤكد ذلك ما ورد في تصريح الرئيس السابق لجهاز الموساد الإسرائيلي "أفرايم هاليفي" الذي قال فيه: "إن بشار الأسد هو رجل تل أبيب في دمشق، وأن إسرائيل تضع في اعتبارها منذ بدأت أحداث الثورة السورية أن هذا الرجل ووالده تمكّنا من المحافظة على الهدوء على جبهة الجولان طوال 40 سنة، منذ جرى توقيع اتفاقية فكّ الاشتباك بين الطرفين عام 1974".
ويضيف هاليفي: "حتى عندما نشب قتال عنيف بين القوات الإسرائيلية والسورية على الأراضي اللبنانية عام 1982 فإن الحدود على جبهة الجولان ظلت هادئة".
أما ضَمّ الجولان، وأي أرض محتلة أخرى، فلا يحتاج إلى توقيعٍ وأقلامٍ وصناديق نبيذ في حال توفّر بائع رخيص وشعب مخدوع.