وجدَ العالَمُ العربي نفسه أمام سؤال العولمة، وهو سؤال كبير وساخن يحتاج إلى إجابة ثقافية وسياسية واقتصادية. كان العالم العربي نائماً، فتحَ عينيه، وقبل أن يقرأ السؤالَ جيداً غلبَهُ النوم، ثم صحا، ثم نام! ولأنه لا بد من إجابة أجاب عالمنا العربي بطريقته.
العولمة والجواب الثقافي
منذ مدة طويلة وأكثر المثقفين العرب يُسدلون الستائر بينهم وبين الظواهر الجديدة، فإذا زادت اقتراباً، ولم تعد الستائر نافعة شمَّروا عن زنودهم، وفعلوا ما فعله (دون كيخوته) حينما اندفع يحارب طواحين الهواء، وينشد الأشعار في بهاء الماضي وعظمته! وقد أتاحت العولمة لهؤلاء فرصة طيّبة للخروج من حالة العطالة والبطالة، فسنُّوا أقلامهم، وأغرقوا المنابرَ والصحف بفيض من المحاضرات والندوات يصبُّ معظمها في شتم العولمة، وخلاصةُ ما يقوله هؤلاء: إنَّ العولمة طاحونٌ كبيرة مرعبة ستقضي على كلِّ ما هو جميل ورائع في المنطقة العربية من القيم والفضائل، ولن تَسلمَ منها الهُوية، ولا اللغة العربية. ولا التراث.
ومن الواضح أن هذا الكلام ينطوي على مبدأ ساذج يمكن تسميته: (التحصين بالخوف)، ومن الواضح أيضاً أن هذه الأقوال تتحدث عن (العولمة)، وكأنها شيء مُعَدّ ومصنَّع خصيصاً لإلحاق الأذى بالعالم العربي!
لفهم ظاهرة العولمة (globalization) لا بد من تعريف سريع لها هو: أنها حالة كونية تستند إلى مجمل التطورات التي شهدها العالم اقتصادياً وإنتاجياً وإعلامياً وتكنولوجياً بقيادة النظام الرأسمالي، وتسعى هذه الظاهرة إلى انفتاح الكل على الكل، وإزالةِ الحواجز أمام التفاعلات التجارية والثقافية والعلمية.
وبناءً على هذا يتضح أن للعولمة إيجابيات كثيرة وسلبيات كثيرة، وسلبياتها تزيد كلما ضعفتْ مشاركة البلدان في جوانبها الفاعلة، واكتفت بوضعية الاستقبال والتلقي، بينما تزيد الإيجابيات في الوضعية المعاكسة وضعية الفعل والتأثير.
العولمة والجواب السياسي
لم يعد خافياً أن أكثر المسؤولين العرب من ألف سنة إلى الآن يضحكون على الذقون بلعبة ساذجة، خلاصتها أنهم يخترعون عدواً، يشيرون إليه بإصبع الاتهام عند الحاجة، ويقولون: إنه هو الذميم اللئيم الذي يعترض سبيلهم، ويمنعهم من تحقيق نواياهم الخيِّرة، ذلك العدو قد يكون حرَّ الصيف أو بردَ الشتاء أو نجمة القطب التي تتآمر عليهم مع بقية النجوم.
وفي السنوات الأخيرة صارت العولمة هذا العدو، هذا (البُعبُع) الذي ينقض على منجزاتهم، فيأكل منها اللحم ويفصص العظم، ويأتيهم بالويلات والأزمات الكبيرة والصغيرة...
- ارتفاع معدلات الفقر والبطالة سببه العولمة!
- عدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب سببه العولمة!
- التصحر، هدر الثروة المائية، ترييف المدن، ضياع العدالة كلُّ ذلك سببه العولمة!
- حتى رداءةُ بيض الدجاج، وتراجعُ جودة الصوف الذي تنتجه الخراف ليس وراءهما إلا العولمة!
وهكذا، فالعولمة صارت حبلَ نجاة لمن لا يجيدون السباحة في مياه السياسة والإدارة، وهم وإن شتموها، فقلوبهم تناديها: يا نور العين، ويا روح الروح!
العولمة والجواب الاقتصادي
إذا كانت المسألة الاقتصادية في العولمة هي أهم جوانبها بما تعنيه من فتحِ الأسواق، وإزالةِ الحواجز الجمركية، وإتاحةِ الفرصة لتنافُسِ البضائع بشكل حر لا يعتمد إلا على جودتها ومزاياها، أقول: إذا كانت المسألة الاقتصادية في العولمة على هذا القدر من القوة والبروز، فإن اليقظة نحوها يجب أن تكون في أعلى المستويات، والخطوات العملية لاستقبالها ينبغي أن تكون سريعة، ذكية، فائقة الحيوية.
غير أننا -باستثناء بعض الدول في منطقة الخليج- لا نكاد نرى شيئاً مما هو مطلوب، بل -على العكس من ذلك- تتابع الاقتصادياتُ العربية وضعية الميت الحي، وترسِّخ أرجلها يوماً بين يوم في دنيا الهشاشة والضعف والتراجع.
ورغم أن المواطنين العرب يعرفون أنَّ اقتصادَ بلدانهم منتوفُ الريش، مسحوبُ الدم، وبِساطُهُ صار قصيراً جداً لا يكفي لمدّ جزء من أرجلهم، إذا بهم يسمعون من إذاعات دولهم وفضائياتها عن معدلات نموه في مجال كذا وكذا! فلا يدرون أيضربون كفاً بأخرى أم يلطمون خدودهم.
تبدو العولمة وكأنها فكٌّ مفترس سيلتهم العالمَ بناسه وبلدانه لصالح الأقوياء، وما يزيد سوء الظن فيها أنها نبتتْ في الدول الاستعمارية، بل في أكثرها عدوانية: أمريكا.
والحق أن واقع الاقتصاديات العربية الذي لا يصلح للتفاعل مع مد العولمة القادم ما هو إلا محصلة لمجموعة من الظروف السلبية القائمة في أكثر أقطار الوطن العربي، ومنها:
- هيمنة الدولة في القسم الأكبر من البلدان العربية على عربة الاقتصاد، وهي -في الأغلب- تأخذ تلك العربة إلى طرق وعرة، ومآزق عجيبة وغريبة، كما أن المشرفين على الاقتصاد بعد البسملة يضعون دينارين في الجيب وديناراً في الخزينة.
- بعد تغير الظروف نسبياً في العقدين الأخيرين، بدءاً من عام 1990، لم يزل المستثمر العربي يضع يده على قلبه كلَّما فكَّر في إقامة مشاريع اقتصادية حقيقية في ظل دول كان لها ما يشبه الهوية من خلال توجهها يميناً أو يساراً، والآن لا يعلم هويتها إلا الله والراسخون في التنجيم.
- يزداد القطاع العام الذي ما زال موجوداً في عدد من الدول العربية خسارةً وانحداراً في كل صباح وكل مساء، وما يجري من خصخصة يبدو مرتجلاً أو مفبركاً لخدمة علي بابا الجديد الذي أطل في الأسواق مع الأربعين حرامي تحت اسم عصري هو: رجال أعمال.
مخاطر العولمة
بعد هذا الكلام كلِّه نتساءل: هل للعولمة أضرار ومخاطر؟ الجواب: نعم.. حتى المتحمسون لها يتحدثون عن مساوئ وآلام محتملة، وهناك من يسرف في التشاؤم. أمَّا أعداء العولمة فيرونها صفقةً مع الشيطان، ويمكن من وجهة نظر معتدلة مقاربة الوجه السلبي للعولمة في نقاط سريعة، أهمها:
أ- لعل أسوأ ما في العولمة أنها ظاهرة لا يمكن الفكاك منها في ظل الجبروت الرأسمالي الذي غدا نظاماً أوحد يتربَّع على عرش العالم، فمنطقُ الرفض أو التردد أمامها ليس وارداً.
ب- تبدو العولمة وكأنها فكٌّ مفترس سيلتهم العالمَ بناسه وبلدانه لصالح الأقوياء، وما يزيد سوء الظن فيها أنها نبتتْ في الدول الاستعمارية، بل في أكثرها عدوانية: أمريكا.
ج- قد يفقد الإنسانُ المُعَوْلَم معظمَ أبعاده الوجدانية والاجتماعية والإنسانية، وينسلخ عن هويته التي تربطه بأرضه وذويه ليغدو كائناً ذا بُعدين فقط.. بُعد إعلامي، وبُعد تجاري!
د- قد تتعرض العولمة للتشويه والتلاعب بها، فتبدو شديدةَ القبح، وهو ما تقوم به حالياً الولايات المتحدة إذ تحاول بخبث تارة، وبوقاحة تارة أخرى أن تزيح العولمة من الوجود لتضع مكانها: (الأمركة)، ولو نجح هذا لأصبح البشر كلُّهم فرقةً موسيقية بائسة يحركها المايسترو الأمريكي! هذه الأمركة، لا العولمة – كما أعتقد – وراء ما تفعله الدبابة الأميركية في عدد من مناطق العالم، ولا سيما في شرقنا العربي.
هـ - تتخذ الأزمات التي قد تحل بجانب من جوانب العالم الخاضع للعولمة طابعاً وبائياً شاملاً، فيقع البشر جميعاً في مصيدة البؤس، ولا يستطيع أحدهم أن يُعزِّي الآخر! وأقربُ شاهد إلينا هو الأزمة المالية التي نزلت بالبنوك الأمريكية في (عام 2008)، وانتقلت عدواها إلى العالم كلِّه!
إلا أنَّ هذه المخاطر رغم وجهها الكالح، ورغم حدوث بعضها، فهي –في معظمها- ذاتُ طابع احتمالي، لأنَّ نظامَ العولمة لم يقطع بعد الشوط الأكبر من مدِّهِ المُنتظَر، ولا يمكن إصدار الأحكام القاطعة عليه، أمَّا إذا وقعت المخاطر المذكورة كلياً أو جزئياً، فلن يقف العالم منها موقف المتفرج، فبعد الأزمة المالية المشار إليها آنفاً أعلنتْ دول الاتحاد الأوروبي عن الحاجة إلى رأسمالية منظَّمة بدلاً من الرأسمالية المنفلتة، وعبَّرتْ عن تخوفها من سيطرة اقتصاد المال المتمثل في البورصات والأوراق المالية على الاقتصاد الحقيقي المتمثل في الإنتاج والسلع، وأكدتْ أنه لا بد من إعادة التوازن بينهما بسرعة.
ثمار العولمة
يتحدث أنصار العولمة عن ثمار كثيرة سيجنيها الناس من شجرتها في دول الشمال والجنوب، بعض تلك الثمار لم يزل في رَحِم الغيب، وبعضها صار ملءَ البصر والسمع، من ذلك:
* ثورة الاتصالات التي ستجعل العالم صغيراً بحجم قرية، وسيصبح الناسُ الموزعون على أطراف الدنيا كالجيران الذين يعيشون في حي واحد، وقد تحقق هذا الأمر إلى حد كبير.
* سيتمكن الطلاب من دخول الجامعات الموجودة في بلاد بعيدة عنهم من دون أن يغادروا بيوتهم، وذلك بفضل الأنترنيت الذي سيمكنهم من متابعة المحاضرات وخوض الامتحانات، وقد تحقق هذا أيضاً.
* ستقدر الشعوب المتخلفة حينما تشملها العولمة أن تتجدد، وتلحق بالركب، ولن تستطيع أنظمتها البالية في الحكم والإدارة أن تعيش في الأجواء الجديدة.
خاتمة
لكننا إذا سايرنا المتشائمين في تشاؤمهم، وَعُدنا إلى مخاطر العولمة، وتساءلنا: ماذا نفعل نحن العرب؟ لجاءَنا الرد في كلمة واحدة: الصحوة، والصحوة المقصودة هي صحوةُ الوعي والفعل وهز الأكتاف في صنع الإنجازات الحقيقية الكبيرة، ويرى كثيرٌ من المهتمين بدراسة ظاهرة العولمة أنها ليست ذاتَ تكوين نهائي مغلق على نفسه، بل هي مما يمكن التأثير فيه والاستفادةُ منه وإدخالُ تعديلات عليه عندما يمتلك الراغبون في التأثير شروط الفاعلية والحركة، ولعلنا نلاحظ أن عدداً من الدول الآسيوية تقدِّم برهاناً أكيداً على صحة الكلام الأخير، فهي تؤثِّر في العولمة من خلال تفاعلها الخاص، وتستفيد منها، بل إنها باتت تُشكِّل ضغطاً على مركزيها الأساسيين في أميركا وأوروبا. الباقي من الزمن ساعة، كما يقول نجيب محفوظ في عنوان إحدى رواياته، وعلينا أن نتحرك.